TOP

جريدة المدى > مقالات واعمدة ارشيف > تلويحة المدى:غياب فنّ الغرافيتيّ في العراق

تلويحة المدى:غياب فنّ الغرافيتيّ في العراق

نشر في: 20 يوليو, 2012: 07:51 م

 شاكر لعيبي قدِمتُ مرة من تونس، ماراً بعمّان، ثم الضفة الغربية، فعمّان مجدداً فبغداد. كانت "الثورة" التونسية قد أنجزت أعمالها الرئيسية، وكان من نتائجها انطلاق موجة لا سابق لها من الغرافيتي في شوارع المدن الرئيسية للتعبير عن شتى المواضيع السياسية والاجتماعية.
 كان من ثمار توسُّعها وأهميتها أن طالبا سجّل في الجامعة التي أعمل فيها مشروعه للماجستير من أجل توثيقها ودراسة "جمالياتها". لم أكن قد رأيت بعد جدران الأسمنت في بغداد، لكني رأيت جدار العزل الإسرائيلي العنصري المرعب حول القدس ورام الله وبيت لحم وغيرهما من القرى والبلدات الفلسطينية المحتلة. لم يقصّر "فنانو" الغرافيتي هنا أيضاً في استخدام الجدران، هذه وغيرها، للتعبير عن غضبهم وتحديهم ونقدهم ومزاجهم عبر الأشكال والألوان والتشكيلات. لم أستطع مغالبة نفسي قبل ساعة من عودتي إلى عمّان من التقاط صورة أمام غرافيتي حسبته ذا دلالة لعرفات مرسوم مباشرة قبل حاجز قلنديا الشهير الرئيسي المؤدي إلى القدس.عندما خرجتُ من مطار بغداد تنبّهتُ على الفور أن جدران الإسمنت العراقية تتشابه بطريقة تثير الريبة مع الجدران الإسرائيلية كأنهما صُمّما من طرف خبير واحد، مع فارق كبير هو غياب واسع للغرافيتي مقارنة بما يراه المرء في تونس والأراضي الفلسطينية المحتلة. في المنطقة التي رأيتها ملياً شرق القناة في بغداد بدأت تظهر للعين ملامح غرافتيّ خجول، كأنه لفرط تراجعه وقلة حضوره غير موجود فعليا. تظهر على الجدران بدلاً منه الملصقات و الإعلانات من كل نوع: الوفيات وافتتاح المعاهد الخاصة لتعليم الحلاقة والسياقة واللغات، الاستنساخ والتصوير والعقارات.. الخ. في مناطق أخرى أيضا هناك الكثير من الغرافيتي السياسي الدعائي، بعضه في سياق الطرفة العراقية: "حلاقة هاني، اطفر وتلقاني". بعضها طرفات كتابية ثقيلة وأخرى تقع في باب الشتيمة "البول هنا للحمير يا حمار". لا يرقى ما تراه في بغداد بحال إلى فن الغرافيتي، إلا في حالات قليلة، رغم وجود رسم على الجدران نراه هنا وهناك، وهذا هو بالأحرى رسم واقعي يتخذ الجدران فحسب حاملاً له بدلاً من الحوامل التقليدية. فن الغرافيتي شيء آخر يختلف بدرجات واضحة عن فن الرسم الواقعي.من السهل الاستنتاج أن العراقيين غير ميّالين لممارسة هذا الفن رغم وجود المناسبة وتوفر الحامل المثاليّ الكونكريتي على طول آلاف الكيلومترات. إنه لا يستجيب لمزاج ثقافيّ يفضّل، بشكل عام، فن الكتابة السهلة على عملية الرسم الصعبة عملاتياً. لكنه أيضاً وفي المقام الأول غياب يدلّ على وعي جماليّ لا يعرف أو يقدّر بعض الفنون المعاصرة حق قدرها. الغرافيتي فن الآني، المتوتر، والإنجاز التلقائيّ السريع، المشحون أصحابه بإرادة جامحة ورغبة للتعبير عن الذات عبر الواجهات الجماهيريّة العريضة، مع عدم اهتمام بالفن الرفيع أو المُنجَز الصلب قدر اهتمامه بالمؤقت والزائل، لأن استهدافاته ومحركاته تخرج من مكان آخر. إنه فن الكائنات المتحرّكة بدأب وليس فن الكسالى المكتبيين. إذا صح ذلك فإن  لهذا الفن وجهة اجتماعية (حتى لا نقول سياسية) لم يعرفها علي الوردي ويدْرسها. ولعل فيها أمراً كان بإمكانه تحوير بعض استنتاجاته عن "العقلية" المهيمنة في ثقافة العراق الاجتماعي. زعمت الثقافة العراقية طيلة الثلاثين سنة المنغلقة الماضية إحاطتها بالمعارف، لكنها كانت تتلقى أطرافاً منها وتزعم ما تزعم. رأينا ذلك في الحقل النقدي على نحو صارخ، ونراه اليوم في الحقل التشكيلي. وليس بمستغرب أن ينتبه البعض فجأة ويتلقف غداً أفكار هذه الموضوع المنسيّ ويعزوها لنفسه مثلما شهدنا، في مناسبات كثيرة أخرى سابقة، ما فعل الكثير من النقد التشكيلي في العراق الذي تلقف من هنا وهناك أفكاره. فن الغرافيتي يغيب نسبياً في العراق في الوقت الذي يتوجّب أن يزدهر فيه. ولعل في ذلك، من جهة أخرى، تصوّراً خفيّاً عاماً عن "جلالةٍ" مفترَضةٍ لفن الرسم وضرورة عدم ابتذاله على حائط شعبي لمتلقِ عابر. إذا صح وجود مثل هذا الاعتقاد فإننا ما زلنا في مفاهيم القرن التاسع عشر حتى لو زعمنا لفظياً أننا نتماهى مع آخر مستجدات الحداثة وما بعد الحداثة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

حياتي وموت علي طالب

حياتي وموت علي طالب

غادة العاملي في لحظة تزامنت فيها الحياة مع الموت استعدت ذكريات عشر سنوات ،أو أكثر .. أختصرها الآن في ذاكرتي بالأشهر الثلاثة الأخيرة. حينما اتفقنا أناقرر هو أن يسافر ملبيا الدعوة التي انتظرها لأكثر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram