هاشم العقابي يوم كنا أطفالا كانت لنا أحلام يقظة نحقق بها أمنيات خيالية لا يقف بوجهها علم ولا واقع. نرسم على الهواء أجمل اللوحات. نعزف أروع الألحان ونغني أعذب الأغاني. نضع على سواعدنا أرق الأجنحة فنطير إلى حيثما نشاء. كنا نبني مدنا عامرة بمحال تبيع العطور والورود والأقلام المعطرة إلى السيارات التي تجوب بنا الشوارع وتطير إذا صادفها زحام أو سيطرات أو صبات كونكريتية. كانت أنهارها ترقص وحدائقها تغني وسماؤها تمطر فراشات وعصافيرها نعرفها وتعرفنا فتنادينا بأسمائنا. وكنا إذا احتجنا لامتلاك طائرة ورقية أو حتى حقيقية، مثلا، لا نشتريها بثمن بل نتمنى امتلاكها لنجدها بين أيدينا وكأننا في عالم الـ "شبيك لبيك".
اليوم مددت يدي بجيبي لأتفحص ما بقي به من خردة لأحسب حساب حاجة أنوي شراءها غدا، فتذكرت أنني ما كنت أفكر بجيبي حين كنت أحلم بامتلاك شيء ما في طفولتي. أحتاج فقط إلى أن أنزوي بغرفة وحدي تاركا خيالي يسرح بين أحلامي فيجلبه لي. خطرت تلك الأحلام ببالي، فتساءلت: هل كان حكام العراق في طفولتهم يحلمون مثلما كنا نفعل؟ وهل يتحسرون، كما نتحسر اليوم، لان اغلب أحلامنا، إن لم أقل كلها، لم يتحقق؟ وهل لدى الملوك والرؤساء والحكام والوزراء وأصحاب المناصب الخاصة جيوب مثلنا؟ بحثت عن صورهم فوجدت اغلبهم يرتدي ملابس بجيوب حتى وان كانت بدلات عسكرية. زين شيسوون بيها؟ أنا لم أر السيد نوري المالكي، مثلا، غير مرتين. الأولى لم أحدثه بها بل شاهدته بالصدفة مع أصدقاء له يتمشى بشوارع السيدة زينب في أيام وجوده هناك بزمن النظام السابق، ومرة دعاني بها لزيارته بالمنطقة الخضراء عندما أصبح رئيسا لمجلس الوزراء. في المرة الأولى لاحظته توقف عند محل فاشترى منه حاجة ما. مد يده بجيبه ودفع ثمنها ثم أعادها للجيب ذاته ليضع به الخردة التي أعطاها له البائع بعد أن استوفى ثمن بضاعته. وسألتني نفسي التي دائما تورطني بأسئلتها: هل يا ترى استعمل المالكي جيبه من اليوم الذي صار به حاكما إلى اليوم؟ وهل أدخل فيه خردة أو دفع منه شيئا لشراء قلم أو دفتر أو حتى قوطية بيبسي مثلا؟ ثم عادت نفسي الأمارة بالأسئلة "الطارئة" لتقول: دعك عن هذه الأمور البسيطة واسأل: هل يحتاج إلى أن يدفع فلسا واحدا من جيبه لو أراد سيارة أو طيارة أو باخرة أو قصرا عامرا؟ زين لعد شلّه بهاي الجيوب؟ ولكي أخلصكم وأتخلص من هذه "الوساوس" أقنعت نفسي أن الحكام كلهم هكذا وليس المالكي وحده يتفرد بعدم استخدام جيبه. فهم إن أرادوا شيئا لديهم من يقرأ أفكارهم ويحضره لهم على الفور حتى دون أن ينطقوا بما يريدون. لكن هذه النفس اللعينة لم يرق لها ارتياحي، فسألتني: لكن عبد الكريم قاسم حين فتشوه بعدما قتلوه وجدوا بجيبه دينارا وربع الدينار! قلت لها: نعم لأنه كان يشتري الصمون والخضراوات من جيبه الخاص وكان يتعامل عند الشراء لأنها فلوسه وتحرق قلبه ! سألتني: لعد ليش الجماعة ما يشترون؟ لو تموتين ما أجاوب. وإن أردت أن أجيبك فلن افعل حتى أتاكد من مصير الولاية الثالثة. كافي.
سلاما ياعراق : جيب الحاكم
نشر في: 26 يوليو, 2012: 04:56 م