محمد علوان جبر لقد تحدثنا في مقالتنا السابقة المنشورة على هذه الصفحة عن المخرج اليوناني الكبير (ثيوانجيلوبولوس) وأفلامه المهمة، بدءاً من فيلمه الأول (الممثلون الجوالون) وانتهاءً بكواليس فيلمه الأخير (البحر الآخر) حيث صدمته دراجة وتوفي على أثرها، وقد تناولنا في مقالتنا السابقة رائعته (تحديقة يوليسيس) الفيلم الحائز على جائزة لجنة التحكيم وجائزة النقاد العالميين في مهرجان كان، سنتناول فيلمه (رحلة إلى كيثرا) الحائز على جائزة أفضل سيناريو في مهرجان كان عام 1984 ....
rnيسميه النقاد (هو أحد الغاز السينما المستعصية على الحل) كونه شكل بصمته المتفردة رغم تأثره بالموجة الجديدة الفرنسية في نظرتها الجادة إلى السينما وفي دعوتها إلى حرية التجريب في اللغة السينمائية، وكذلك تأثره بأغلب المدارس السينمائية التي عملت في أكثر وأخطر وأدق مناطق السينما لإيصال الإبهار والتفرد. في اغلب أفلامه تتردد مفردة الرحيل.. كلازمة ... رحلات عميقة وطويلة لا تنتهي أبدا نهاية طبيعية.. رحلة البحث عن الذات كما في فيلم (تحديقة يوليسيس) التي كانت نظرة إلى الأعماق الإنسانية.... أو تداخل الشخصيات فيها ووقوفها إزاء متناقضات .... أو أن تبقى في حالة تجوال دائم كما في فيلم (الممثلون الجوالون) أو أنها تواجه الموت كما في فيلم (مربي النحل) أو أنها تعود ولا تصل إلى المكان الذي تريد كما في فيلمنا (رحلة إلى كيثرا) ربما تعود أحيانا لكنها تجد نفسها منبوذة ومرغمة على العودة إلى المنفى مرة أخرى برحلة إجبارية.. تندرج اغلب أفلام (ثيوانجيلوبولوس) ضمن سينما التأمل، فهي ترغمنا على أن نكون مشاركين بفعالية في عملية قراءة الصورة أمامنا، تغذي مخيلتنا وتحفز أذهاننا عبر صور متخمة بالجمال، الكثير من المشاهد السكونية الصامتة تدفعنا إلى التأمل والتأويل، ولأنه مفتون بالكادر المفرد معتمدا على اللقطات الطويلة المتواصلة دون انقطاع والتي تستمر لعدة دقائق، كذلك ينتهج أسلوباً هادئاً ورصيناً في اللغة السينمائية عبر الاختزال المتقن للغة السردية، وفيلم رحلة إلى كيثرا يعد أنموذجا، إذ يعمل على الصورة واللغة السينمائية أكثر من الحوار، رغم أننا إذا تأملنا في الحوارات نقف أمام حبكة لغوية، كأننا نقرأ نصوصا عالمية مهمة. كذلك تتميز اغلب مشاهد الفيلم بالجمال والسحر انطلاقا من منظورات شرقية، خاصة بعد أن يقوم بصحبة عائلته زوجته وابنه وابنته بزيارة القرية التي يملكان فيها بيتاً... فعبر الريف تتماثل التكوينات الفيلمية مع تشكيلات الفنون اليونانية القديمة حيث يختفي الميلودرامي والحركي وسط الخلفية، يتم تسليط الكثير من الاهتمام على الأشكال المعروضة.. المرئية من الأمام ومن الخلف، وتبقى اغلب الشخصيات معزولة وسط المكان... وحيدة تقف كنقطة سوداء وسط فضاء شاسع من البياض... مستخدما لقطات الطويلة. (رحلة إلى كيثرا) عبارة عن فيلم داخل فيلم يتحدث عن مخرج سينمائي منهمك في إكمال فيلم يتحدث عن تجربة عودة والده من رحلة نفي قسرية وهنا ندخل في أول تداخل بين الواقع والفيلم، الأب يعود إلى وطنه اليونان بعد أن قضى في منفاه الروسي أكثر من ثلاثين عاما، يستقبله الابن ـ المخرج السينمائي ـ وأخته، في تتابع الأحداث، يدخل غربة هائلة منذ أول دخوله البيت، بعد هبوطهم من سيارة التاكسي نرى خطوات العائد من المنفى بطيئة ومترددة، وهو يعانق زوجته.. يكون بمواجهة أسئلة عن المنفى التي يجملها بكلمة (في روسيا يسقط ثلج كثير).. يحاول أن يعيد اكتشاف وطنه عبر رحلة إلى الريف، بعد العودة يعيش الضياع الحقيقي... الوحشة تحفر في روحه وتنعكس بوضوح على حياته اليومية، لم يجد جذوره في المدينة ـ اليونان ـ فالمدينة غير المدينة والوطن غير الوطن وفي محاولة للاقتراب من صور قديمة تحتل مساحة في عقله وروحه يقضي ليلته الأولى وحيدا في فندق قديم تحول إلى ماخور عمومي.. كان في ما مضى فندقا أمضيا هو وزوجته فيه أياماً .. وهو يردد كلمة القطار السريع كلما يسمع صوت القطار الذي يمر قريبا من الفندق ، وفي الصباح يصل القرية .. لم يجد من أصدقائه ورفاقه القدامى سوى صديقين له كانا يتفاهمان في ما مضى بلغة الصفير القريبة من لغة الطيور كونهما كانا ثائران تعرضا كثيرا إلى السجن ومن ثم النفي.. ويعيش محنة انه يجب أن يبيع قطعة الأرض المشيد عليها بيته حاله حال البقية.. فيرفض .. مؤكدا علاقته القوية بجذوره .. يسبب رفضه البيع مشكلة للجميع فالشركة المستثمرة يجب أن تستحصل على تواقيع الجميع دفعة واحدة تخلصا من إشكال قانوني كون الأراضي المراد شراؤها متداخلة مع بعضها ، يتم تهديده حتى من قبل أصدقائه وجيرانه بالقتل والموت، وفي ما بعد من الشرطة بان يعاد إلى منفاه لأنه لا يملك الجنسية ، وفي مشهد لا يمكن أن ينسى زيارة المقبرة بصحبة صديقه .. يتحدث مع أصدقائه الموتى .. ويرددان أغنية شائعة (أربعون تفاحة حمراء.. تلفها حبيبتي في منديل...) وهنا تظهر براعة كادر التصوير المتمثل بأعظم المصورين في العالم المصور اليوناني (جيورجوس ارفنانيس) الذي صور اغلب أعمال ثيو .. العجوز سبايروس يرقص وصديقه يشاركه التصفيق في تحية إلى أصدقائه الموتى .. تتردد هذه الأغنية المصاحبة للرقصة الحزينة، تعبير ع
رحلة إلى كيثرا..سينما الصمت الضاج
نشر في: 26 يوليو, 2012: 04:59 م