 سرمد الطائيترنم شاعر الفرس الأكبر سعدي الشيرازي، بقصيدة ذات مغزى وهو يشاهد على مسافة قريبة، دخان الحرائق المنبعث من بغداد يوم دخول هولاكو المغولي اليها وما احدثه فيها من فاجعة قبل اكثر من 800 عام.
وبينما كان الشيرازي ينظم قصيدته التي قال فيها راثيا عاصمة الخلافة "نسيم صبا بغداد بعد خرابها.. تمنيت لو كانت تمر على قبري" كان الناجون البغداديون منهمكون بجمع البصل والاكثار من شمه! لماذا؟وقد كنت ابحث من صفحة انترنت الى اخرى عن هذه القصيدة بعد حديث عابر مع صديق بشأن أدب الفرس، لكنني وجدت نفسي اغطس في تفاصيل غزو المغول لبغداد، فقمت بجمع أكثر من مرجع تاريخي لاني اكتشفت انني شبه جاهل بالتحولات الاساسية التي حصلت في امة العرب والمسلمين في النصف الثاني من العهد العباسي.هذا التتبع يقودني الآن الى تاريخ ابن الأثير، الذي توفي قبل غزو المغول ببضع سنوات، وهنا أدرك حجم التفاصيل التي علينا ملاحقتها لفهم المزيد من تحولات القرون الخامس والسادس والسابع للهجرة (1000 للميلاد حتى 1300). واتذكر جيدا ان كتب التاريخ الرسمي المتداولة في مراحل الدراسة، لا تترك كبيرة وصغيرة إلا أحصتها حين يكون الموضوع متعلقا بفتح الأندلس او معركة ذي قار او بناء البصرة والكوفة فضلا عن تأسيس بغداد. إلا أن هذه الكتب تمر على نحو سريع بفترة الانحطاط والتراجع، فلا نعرف من قرون بني العباس الأخيرة الا انتصار صلاح الدين اليتيم في القدس، وبضعة انباء حول أسر لويس التاسع في منصورة مصر.وأحسب للحظة أن كتب التاريخ التي تشيع بيننا تقتصر على التأريخ للنصر والظفر، وتتهرب من استيعاب ما حصل بعد ذلك. وكأنها تريد ان تقول ان دخول هولاكو جريمة رهيبة، لكنها لا تناقش الانهيار الاخلاقي والفكري في بغداد كأحد أسباب هزيمة مدوية كهذه، فضعفنا الداخلي اخطر من شهية هولاكو للغزو والدمار، في نهاية المطاف.ومما فاقم جهلي بتلك الحقبة انني قنعت من التاريخ الكلاسيكي بكتابين، لايغطيان فترة الانهيار، الاول تاريخ الطبري المتوفى عام 309 للهجرة اي قبل سقوط بغداد بثلاث قرون، والثاني تاريخ المسعودي الذي رحل بعد الطبري بأعوام، وها انا انتبه الى انني جاهل تقريبا بأهم ما حصل في القرون الثلاثة التالية من حكم العباسيين.لقد قرأت الطبري والمسعودي ايام المراهقة وقاما بحشو رأسي بمعلومات عن طهمورث وشيث وسابور ذو الاكتاف والضحاك ونمرود وطسم وجديس وبني عبس، ثم بالرواية الاسلامية التي يشرحها فيلم الرسالة، وشيئا كثيرا عن ملك بني امية وعصر بني العباس الذهبي. بعدها قمت بعبور ألف سنة لانهمك في متابعة تاريخ النهضة الاوربية ثم حروب القرن وتشرتشل وستالين وصولا الى صولات عبد الناصر وغزو صدام للكويت، وكل من قام باحتلالنا بعد ذلك وأثناءه.غير اني اليوم أتصفح "الكامل" لابن الأثير وهو يسهب في شرح الانحطاط مع ضعف الخلافة وظهور حكم "الجواري والخصيان"، وسيرة علاء الدين الجويني الذي نصبه المغول حاكما على العراق بعد قتل الخليفة الاخير الضعيف، وجزءا خاصا بفترة المغول من كتاب المحامي عباس العزاوي "تاريخ العراق بين احتلالين".. كي ادرك بألم نتيجة اهمالي لآخر قرنين من حكم العباسيين، وتفاصيل اسباب الانهيار والضعف الداخلي المدوي الذي لم نتعاف منه رغم كل "اصلاحات" السيد ابراهيم الجعفري.وعبر تصفح العناوين الشائعة تدرك انك تكاد تعدم الكتب التي تتحدث عن انهيارات عراق العثمانيين بتفاصيل كافية، او الفترة الفاصلة بين سقوط بغداد وظهور مدحت باشا نهاية العهد العثماني، ولولا كتب الرحلات التي وضعها التجار الافرنجة والبعثات التبشيرية المارة بالعراق، لكنا بلا صورة كافية عن وصف تفصيلي للانحطاط والدمار في آخر 500 عام من تاريخنا، اي القرون التي شكلت العراق الحالي وأثرت فيه كثيرا.وها انا اقرأ في تاريخ الحقبة السوداء منذ 3 ايام، وصفا ينقله عطاء الملك الجويني، عن حال البغداديين بعد اسبوع من مذبحة هولاكو، يقول: كان اهل بغداد يكثرون من شم البصل، اتقاء رائحة الجثامين والاجساد المتحللة لقتلاهم، حيث لم يدفنها احد، بعد هلاك خلق كثير.اشعر انني الان بحاجة الى شم كثير من البصل، كي أتم قراءة ما تبقى من عصر فجيعة يمتد حتى لحظتنا هذه. وقد يأخذني الخيال ابعد من ذلك مقترحا ان استعين بشم البصل اسوة بأجدادنا المساكين، حين اطالع اخبار البلاد والعباد في صحف اليوم، او اشاهدها على الشاشات. نعم لقد بقينا نشم البصل نحو ألف سنة. انه درس بليغ عمره 800 عام، استزيدوا من شم البصل كلما قرأتم التاريخ او عشتم داخله.