علي حسينمازلت على قناعتي بأن افضع حلقات مسلسل إنهيار بغداد، بدأت مع عصر محافظها صلاح عبد الرزاق.. مع خالص تقديري للمنجزات العظيمة التي قدمها السيد كامل الزيدي الذي لايزال ممتلئاً بالحنين الى عصور القرون الوسطى. كنتُ قد كتبت في هذا المكان أكثر من مرة، عن بغداد المدينة التي نحب، لا عن المدينة التي في مخيلة بعض الساسة..
ممن لا يعرفون ان عروس المدن تدخل عامها المئتين والخمسين بعد الألف.. تطلعت في الرقم 1250 الذي وضعه الصديق عبد الخالق كيطان على صفحته في الفيسبوك وقرأت الأسى في تعليقات زملاء وأحبة حول الحال التي وصلت عليها حاضرة العراق.. وتأملت بين ما تعيشه المدينة اليوم، وما كانت عليه منذ أكثر من ألف عام. حين تحولت من موقع مجهول على الخارطة إلى عاصمة يعمل بتوقيتها جميع العالم، منذ ذلك التاريخ غصت بغداد بأهل العلم والمعرفة، كما فاضت بالشعراء والأدباء. مثلما تفيض اليوم بالجهلة والسراق وصبيان السياسة الذين يصرون على تحويلها من مدينة للنور والبهجة إلى قرية مظلمة. كيف لا نتذكر بغداد اليوم ونحن نسمع ونقرأ تصريحات عدد من المسؤولين الذين يخططون إلى تحويل مدن العراق إلى مجرد تواريخ من الماضي، حيث يسعى الولاة الجدد إلى تسطير تاريخ مزور يرسمونه من خلال قرارات تعسفية تلاحق الناس في بيوتهم وأماكن عيشهم. الصرخة التي أطلقناها في المدى أكثر من مرة حول الحال التي وصلت إليها بغداد لم تحرك ساكنا عند أولي الأمر، بل أن البعض منهم لم يقرأها، ففي زحمة اللهاث والصراع على المناصب، لا مكان لمراجعة أخطاء الماضي ولا حتى النظر إلى عثرات الحاضر، نتلقى في المدى يومياً عشرات بل مئات التعليقات حول المقالات والتحقيقات التي تنشر ولم أجد في كل هذه التعليقات اسما لمسؤول أو سياسي يسأل ما الذي حصل؟ وماذا تريدون؟ نسمع فقط من على المنابر الفضائية الشتائم المبطنة والوعيد والتهديد والبكاء على القيم التي يريد العبث بها "ثلة" من الخارجين على القانون بينهم صحفيو المدى الذين يتوهمون ان الحرية يمكن ان تصبح شعارا يتمسك به جميع السياسيين .لا أعتقد أن متابعا للشأن العراقي يمكن أن يتطلع إلى ما يحدث في مدن العراق اليوم، دون أن يتأمل في الفارق، كانت بغداد والبصرة والموصل إحدى مراكز العالم. يأتي إليها الناس من أنحاء الأرض للعلم والثروة والعمل وليس لتعلم أصول الحملة الإيمانية، وأقامت هذه الحواضر علاقات حضارية مع سائر دول العالم، وغصت بغداد بأهل العلم والفلسفة وكبار المؤرخين ومطربي الزمن الجميل، كما فاضت بالشعراء والأدباء.كانت مصر ولبنان تحاولان أن تنافسا بغداد، ليس بإعداد بيانات "الأخلاق العامة" وعصابات كواتم الصوت بل بنشر الكتب، وكانت بغداد تنافس عواصم الدنيا، لا في عدد المرتشين والمزورين وانما في العمل على إشاعة البهجة في الشوارع والوجوه والقلوب. تنزلق بغداد التي نحب اليوم، نحو عصور الظلام.. والعتمة!، والحاكم فيها لا يسمع سوى صوته.. تنزلق نحو كهفوف التخلف والتحجر، حيث لا ضوء في الأفق. ذات يوم كانت بغداد تنافس المدن بالأحلام والآمال.. ذلك عصر كان الساسة فيه يريدون لبغداد أن تكون مدينة متعايشة، متسامحة، ولم يكن يدور بخلدهم أن تتحول المدينة الى مدينة أشباح، يريد لها البعض ان تكون داراً للآخرة بعد أن كانت حاضرة الدنيابعد 1250 عاما تحولت بغداد من مدينة إلى معسكر، وفيما أرادت أن تمسك برياح التغيير، اراد لها ساسة اليوم ان تمسك بالأسى والظلام لا لشيء فقط لانها أرادت أن تمارس الفرح، اليوم تجد بغداد نفسها تجتر الأمنيات، فيما ساسة الظلام مصرون على الإطاحة بالمدن المبنية على أفكار الجمال وأمنيات التسامح، فلم يعد هناك منطق لإقامة مدن المواطنة، وإنما مدن الفساد والخداع.بغداد اليوم تحتضر لأن الجهل والجهالة هما سيدا الموقف في كل المجالات.. لأننا نعيش مع ساسة يكرهون كل " مايمت الى الثقافة والفنون بصلة. هل يعقل أن تلك"الشخوص"التي رأيناها في الانتخابات، والتي يغلب على البعض منها جهل تستشفه من أول كلمة ينطق بها، هل يعقل أن هؤلاء يمكنهم إنقاذ بغداد من محنتها؟! واقع الحال يقول أنهم لعلهم هم من يجلسون عند رأس الوطن ساعة الاحتضار.. يتقاسمون غنائمه
العمود الثامن: بعد 1250 عاماً.. بغداد فـي محاكم التفتيش
نشر في: 4 أغسطس, 2012: 10:31 م