احمد المهنا أصبح من الممكن الحديث نسبيا اليوم عن وجود شيء اسمه "السلطة العراقية". والمقصود بها على نحو خاص السلطة التي يقودها ويتفرد بالتحكم بها الى حد كبير رئيس الوزراء. صحيح ان هناك مشاركة للكتل السياسية في الحكومة، ورئاسة جمهورية، وبرلمان، وسلطة قضائية، وتعددية اعلامية. ولكن هذه كلها مظاهر أكثر مما هي جواهر، لأن القرار السياسي والأمني هو بيد رئيس الوزراء. فالوزراء "فنيون" لا رأي لهم في السياسة. والجيش والشرطة والأمن والمخابرات، وهذه هي "أصول" السلطة، تحت قيادته المباشرة. رئاسة الجمهورية محيدة نوعا ما في الصراع السياسي.
الدور التشريعي للبرلمان معطل جزئيا، بينما دوره الرقابي معطل كليا. أما السلطة القضائية فقد قضي أمرها وأصبحت تحت طوع بنان السلطة التنفيذية. وفي أحسن حالاته لم يستطع الإعلام قطع الحبل السري مع "العملية السياسية"، فليس له اي جسم مولود ولادة خالصة من رحم "المجتمع المدني" أو السوق. ولاشك ان لهذه المظاهر، أو بعضها على الأقل كالبرلمان، قدرة ما على مماحكة رئيس الوزراء، أو ازعاجه، أو حتى أن تفرض عليه درجة ما من مراعاتها. ولكن هذا أقصى ما تقدر عليه. وقد أوضحت محاولة سحب الثقة من المالكي حدود قدرة البرلمان، وكانت أكبر تحد واجهه. وقد يتعذر تجدد مثل هذا التحدي خلال المدة الباقية من الولاية.ولكل ذلك يمكن استخدام تعبير السطة العراقية، بالمعنى الذي تستخدم فيه مع سلطات رؤساء مثل عمر البشير أو علي عبدالله صالح، أو أي "أنظمة تسلطية" أخرى. وذلك تفريقا لها، ولنظام المالكي، عن "الأنظمة الدكتاتورية" المانعة للتنفس، والقاطعة للتعدد، من نوع أنظمة صدام والقذافي والأسد.إن المضمون الفعلي لكل نظام تسلطي هو اعاقة الديمقراطية. فهو احتكار لأهم السلطات، أو حكم دون فصل فعلي للسلطات، ولذلك اصطلحت عليه تسمية "تسلطي". ولكن خصوصية "السلطة العراقية" تكمن في اشياء أخطر من اعاقة الديمقراطية، وهي إعاقة الدولة نفسها وبالتالي العجز عن تقديم الخدمات، بما فيها الأمن، واستمرار انتاج الأزمات السياسية والتوترات الاجتماعية.والإشكالية هي أن طبيعة "العملية السياسية" تساعد على تكريس هذه "الخصوصية". فهي مبنية على الطائفية والإثنية، لا على المواطنة والمؤسسات وحكم القانون. إن الطائفية – الإثنية تفرض "المحاصصة". وهذه المحاصصة تتقلص من الطائفة والقومية الى التنظيم أو الحزب. التنظيم او الحزب في التركيبة السائدة ينكمش الى قياداته. وهذا التحصيص الضيق ينسف العمل بقاعدة الشخص المناسب في المكان المناسب. وضرب هذه القاعدة يؤدي الى اختلال على مستوى ادارة الدولة عموما، وعلى مستوى الأمن خصوصا.وأخطر نتائج اختلال الأمن هو إضعاف سلطة القانون. فالفساد الشامل هو نتيجة حتمية لتراجع سلطة القانون. والإرهاب هو أحد وجوه هذا الفساد. ان الجريمة المنظمة، شأن التهريب وتجارة المخدرات والرقيق الأبيض، موجودة في دول تتمتع بسلطة القانون. ولكن في الظروف التي تصنعها السلطة والعملية السياسية، تأخذ الميليشيات، شأن تنظيم القاعدة، أهم مظاهر الجريمة المنظمة. فهي ترتكب جرائم جنائية مثل السرقة والإختطاف والابتزاز، ولكن لتمويل قدراتها على أعمال العنف الأعمى أو المحسوب لأنها تعمل تحت راية "العقيدة" أو "السياسة". وبذلك تجمع بين نوعي الجرائم الجنائية والسياسية. وهي جرائم الوجه الشنيع المترتب على إعاقة الدولة والديمقراطية معا.
أحاديث شفوية:إعاقة الدولة والديمقراطية
نشر في: 5 أغسطس, 2012: 10:35 م