أ.د.قاسم حسين صالحالملاحظة بسيطة للغاية هي أنني حين زرت اسطنبول عام 1978 كان السيف (ذو الفقار ) موضوعا في قاعة سيوف النبي والخلفاء الراشدين في متحف الآثار الإسلامية.وقيل لي إنه أخرج في عام (2010) من تلك القاعة ووضع بآخر قاعة،وفي زيارتي له في تموز هذا العام (2012)..اختفى ذو الفقار من المتحف.
ومع بساطة الملاحظة التي لا تعني شيئا لمن يمتلك وعيا حضاريا،فان لها دلالاتها السياسية والطائفية والسيكولوجية في سياقين: ما يجري من أحداث،ولأن متحف الآثار الإسلامية يزوره سنويا ما يزيد على مليوني سائح من أنحاء العالم بوصفه الأفخم والأضخم بالعالم الإسلامي.والتساؤل: هل تم رفع السيف من قبل إدارة المتحف أم أنها تلقت أمرا من وزارة السياحة أم كانت بموافقة اردوغان،أو من سبقه في الرئاسة، على اقتراح قدّم له من أحد مستشاريه؟ومع أن (ذو الفقار) المتكون من نصلين طويلين منفرجين هو أحد سيوف النبي محمد فإنه ارتبط باسم الإمام علي.وأرجح الروايات تفيد،أن سيف علي انكسر في معركة أحد فأعطاه النبي "ذا الفقار" ليواصل المعركة. ولأنه أظهر شجاعة فائقة في الحرب وكان حينها فتيا فقد أطلق عليه مقولة ( لا فتى إلا علي ولا سيف إلا ذو الفقار). وبالمناسبة،فإن الطمع كان السبب في خسارة المسلمين معركة أحد.فلو أن عبد الرحمن بن عوف الذي كان يقود كتيبة الحماية ما ترك سفح الجبل وهرع ليجمع الغنائم حين تراجع المشركون..لما انتهز الفرصة بذكاء خالد بن الوليد وحصل ما حصل.وكان لسيف ذي الفقار وسيوف صحابة آخرين الفضل في حماية النبي من مقاتلين شرسين.ومع أن سيفا آخر لعلي" البتّار..أحد سيوف النبي أيضا" موجود مع سيف الخليفة عثمان بخانة واحدة في القاعة التي تضم سيوف النبي والخلفاء الراشدين،فإن الاحتمال المرجّح لرفع "ذي الفقار" من المتحف كان بأمر من جهة عليا،وإن لهذا الإجراء أرثا سيكولوجيا نبهني إليه تصريحان حديثان منسوبان لاردوغان،حمّل في الأول مسؤولية انهيار الدولة العثمانية إلى (الثورة العربية الكبرى)لتعاون قادتها مع البريطانيين والفرنسيين في دحر الجيش العثماني ،مع أن الأمبروطورية العثمانية انهارت من داخلها،فيما أشار في الثاني متباهيا بأنه حفيد السلاجقة والعثمانيين. والمعروف أن السلاجقة سلالة تركية حكمت أفغانستان،إيران،سوريا،العراق،الجزيرة العربية..وأنها دخلت الإسلام في عهد زعيمها سلجوق سنة 960 ميلادية،وأن مقاليد الأمور في عصر نفوذهم حين صاروا أحد أقوى دول المشرق، كانت بيدهم ولم يُبقوا للخليفة العباسي سوى المظاهر الشكلية..فيما كانت الإمبراطورية العثمانية التي أسسها عثمان الأول واستمرت 600 سنة أقوى إمبراطوريات زمانها..ما يعني سيكولوجياً استثارة دوافع السيطرة في الشخصية التركية التي تمتاز بـ (تضخم الأنا) وتعشق الأبهة والفخفخة والسلطنة،واستعادة النفس الطائفي الذي شنته في حروب كان أحد أسبابها مذهبيا،مع أن هذا (الوعي الطائفي)لا يخدم تركيا التي يريد اردوغان إدخالها في الاتحاد الأوروبي. من جانب آخر،شكّل اردوغان في السنوات الخمس الأخيرة ظاهرة فريدة من نوعها بأن وفّق بين الدين والسياسة في أنموذج ديمقراطي استثنائي وجمع بين أضداد في توليفة جاءت على نحو فريد،وأنه يتمتع بذكاء اقتصادي وشخصية كارزمية ،لدرجة أن إحدى أمنيات العرب في ربيع ثوراتهم كانت أن يأتوا بحاكم عربي على غرار اردوغان..من أجمل فضائله انه ليس فاسدا! هذا يجعلك تستبعد أن يكون تفكير سلطته أو من سبقتها بهذه السطحية.لكن (السيكولوجيا) تنبّهنا إلى أن السلطة في أوقات الصراع يتحكّم بها التعصب القومي في ثلاث حالات: وجود خطر خارجي، أو استرداد حق مغتصب، أو ردّ اعتبار..لاسيما السلطة التركية التي تحرص الآن عبر ساستها ومسلسلاتها التلفازية على أن تذكّر العالم بأنهم قوة عظمى،وأنهم يستعيدون الآن تلك العظمة.هل بالغنا في الموضوع وذهبنا به بعيدا؟ ربما..لكن حقيقة العرب والمسلمين أنهم ينشغلون بالماضي ويوظفون أسوئه و"توافهه"في إذكاء حاضر نفوس مأزومة ،ولأننا على يقين من دلالاته بخصوص منطقة تعيش الآن مرحلة..انعدام اليقين!
اختفاء (ذو الفقار) في اسطنبول
نشر في: 7 أغسطس, 2012: 06:15 م