TOP

جريدة المدى > المدى الثقافي > على البحر المتوسط، أمام مقبرة فاليري البحرية

على البحر المتوسط، أمام مقبرة فاليري البحرية

نشر في: 8 أغسطس, 2012: 06:12 م

عبدالزهرة زكي كان من أغرب مفاجآت مهرجان سيت للشعر في دول البحر المتوسط أن اقرأ شعراً على ظهر مركب في البحر المتوسط على شواطئ ميناء المدينة التي ابتعد عنها المركب حتى بدت جبلاً نائياً تحيط به المياه من أكثر من جانب.. كان المركب بركابه الذين دفع كل منهم خمسة عشر يورو من أجل هذه الرحلة الشعرية البحرية
يمضي هادئا بين أفق يلتقي فيه الموج بالسماء من جانب وجبل المدينة من جانب آخر، وكان أبرز ما يظهر على الجبل هو (المقبرة البحرية) التي خلدها بول فاليري بواحدة  من أهم قصائده التي كسر معها انقطاعاً عن الشعر دام لأكثر من اثني عشر عاماً.. كنت في هذه الأثناء اقرأ قصيدةً بعنوان (في فم الصقر) تتحدث عن انقضاض صقر على سمكة والتحليق بها ثم سقوطهما معاً ميتين في مياه البحر العميقة.. لكن صرخة مفاجئة من سيدة فرنسية أنهت القصيدة والصمت ومتعة القراءة والإصغاء إلى الشعر والبحر.. لم تبق بيننا وبين مركب جاء باتجاه متقاطع مع اتجاه مركبنا سوى خمسة إلى عشرة أمتار هي الفاصل بين اصطدام المركبين وما ينجم عنه وبين إمكانية غير متوقعة للنجاة من هذه الكارثة.توقفت عن القراءة، وكان من غير المتوقع أن لا أطيل النظر في المركب المقابل حين انشغلت في لحظات حرجة بالتفكير بين (المقبرة البحرية) وقصيدتي عن موت في أعماق سحيقة لمياه البحر وبين تذكّر مباغت لمركب رامبو الشعري (المركب السكران)، وهو مركب لا صلة له بالمركب الهادئ الذي نحن عليه.. كان عبد الرحمن طهمازي الذي آثر أن يرافقني في هذه الرحلة البحرية الغريبة على كلينا داخل قمرة في المركب يحدّق فينا، بابتسامة فاترة، من دون أن يعرف شيئاً عن المصير الذي ينتظرنا جميعاً..لقد سيطر هدوء غريب على جميع الركاب الذين فضلوا من دون اتفاق أن يتركوا الأمر لمهارة كابتن المركب الشاب الذي كان قد ترك المركب على هواه منشغلاً بالشعر وبما يجري داخل مركبه ومنصرفاً بذلك عن البحر وما فيه.. وفي الحقيقة كان الجميع، وليس الكابتن وحده، قد تفاجأوا بالمركب المقابل وكما لو كان قد نزل أو انبثق صدفة أمامنا لينصنع هذا القدر الغريب على البحر وفي المقابل من (المقبرة البحرية) وفي اللحظة التي كنت أقرأ فيها قصيدة عن موت في أعماق البحر.لقد كتبت هذه القصيدة ونشرتها قبل أسابيع وكانت قد أوحت بها إليّ جملة صادفتها في قصيدة للراحل سركون بولص الذي أهديت القصيدة إليه. وخلال جميع الجلسات التي قرأت فيها في (سيت) كنت أحرص على عدم قراءة أي من قصائدي التي يشكل الموت موضوعاً لها، وهي قصائد وثيمات شكلت اهتماما جوهريا في عملي خلال السنوات الأخيرة.. كانت أجواء المهرجان أبعد ما تكون عن أن يحاول شاعر استدرار تعاطف مستمعيه اعتمادا على موضوع مؤثر إنسانيا مثل موضوع الموت، خصوصاً حين يكون الشاعر قادماً من بلد ومنطقة بات الموت يشكل فيها هاجساً دائماً.. كنت أتوقع أن تكون المنعطفات الكبيرة ومعها التحسبات الكبيرة التي تشهدها منطقتنا مواضيع مغرية لكثير من الشعراء العرب المشاركين في المهرجان، وقد تتركز قراءات بعض الزملاء المشاركين من بلدان عربية تعيش صراعات الموت والقتل على مثل هذه الموضوعات المتوقعة..لقد تركت الحديث عن مثل هذه الظروف لجلسات كثيرة بين أساسية وهامشية لم يخل منها يوم من أيام المهرجان..لكني اخترت موضوعات واهتمامات أخرى، وليس سوى مقبرة بول فاليري ووجودي قبالتها على البحر هما ما أغراني في قراءة هذه القصيدة وفي هذه اللحظة التي نواجه فيها موتاً على ساحل بحريّ غريب على واحد مثلي قادم من ساحل الصحراء.نهض الكابتن بمشاعر بدت لي متضاربة بين أن يبتسم ليبث الثقة في نفوس الركاب وبين أن تملأ الحيرة كل مساحة وجهه وهو يرى مركبه يمضي سريعاً إلى القدر الذي لم تعد تبعدنا عنه سوى أمتار.." أنا آسف"، قالها بالإنكليزية الكابتن الشاب ذو اللحية الشقراء لي وللركاب قبل أن يستدير بحزم إلى دفّة المركب ويديره بأقصى ما يستطيع باتجاه لم يتمكن معه من تفادي المركب المقابل إلا في آخر لحظة ممكنة للنجاة، لحظة تلقى فيها تقريعاً كان يبدو لطيفاً من الكابتن المقابل الذي لم يعمل من جانبه أي شيء للتخلص من القدر المأساوي المحتمل.صفق الجميع للكابتن وهتفت فتاة:" يحيا الشعر..يحيا الكابتن"..كنت في مستهل هذه الرحلة البحرية قد تحدثت للركاب عن أن هذه هي الرحلة الأولى لي والأستاذ طهمازي على ظهر البحر.. وحين نجونا عدت فذكّرتهم بهذا وأضفت:" بالتأكيد لن تكون هذه الرحلة الأولى هي الأخيرة ما دمنا قد نجونا من هذا الحادث الفظيع".كان أغلب الركاب من النساء.. وباللطف الأنثوي واللباقة الفرنسية المعروفة جرى نسيان الحادث في لحظات، مثلما كنا قد نسينا أنا وطهمازي، تعب الرحلة إلى (سيت)، وهو تعب بددته الروح الإنسانية والدفء الحميم لتلك الروح التي يوقظ فيها الشعر وأجواؤه الجمال والألفة.. لقد وصلنا، الشاعر عبد الرحمن طهمازي وأنا، ليلاً إلى مطار سانت إكزوبري في مدينة ليون، متأخرَين بليلة عن يوم الافتتاح بسبب توقيتات الطيران التي دائماً ما تظلم العراقيين أو تؤخرهم وترهقهم.. كان علينا أن نجرب سفراً آخر بالقطار إلى مدينة مومبليه قبل أن نصل الى سيت، وهو سفر ليس يسيراً على مسافرَين يستخدمان القطار لل

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

مطلع الشهر المقبل.. انطلاق معرض العراق الدولي للكتاب

مطلع الشهر المقبل.. انطلاق معرض العراق الدولي للكتاب

بغداد/ المدى تنطلق فعاليات الدورة الخامسة من معرض العراق الدولي للكتاب، في الفترة (4 – 14 كانون الأول 2024)، على أرض معرض بغداد الدولي.المعرض السنوي الذي تنظمه مؤسسة (المدى) للإعلام والثقافة والفنون، تشارك فيه...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram