TOP

جريدة المدى > مقالات واعمدة ارشيف > عالم آخر: اعترافات مسؤول نافذ

عالم آخر: اعترافات مسؤول نافذ

نشر في: 11 أغسطس, 2012: 09:24 م

 سرمد الطائيأتيحت لي الفرصة للحديث مع مسؤول كبير في احد مجالس المحافظات المهمة، فطرحنا عليه اسئلة حول مسار الأمور في حكومته المحلية، وخرجنا بنتيجة مفادها ان الامل مؤجل حتى إشعار آخر لان الدولة لا تزال ترتجل وترتجل، وخطواتها تتضارب وتتعارض، فتلتوي قدم على قدم ويترنح العملاق البترولي الذي اسمه العراق، ويسقط ليقوم ثم يسقط ويدور حول نفسه معصوب العينين خائر القوى.
الحديث انطلق من سؤال عن خمسة شوارع مهمة في المحافظة لم تمتد اليها يد الترميم منذ 15 عاما. يجيبك المسؤول: القانون الجديد يمنع تعبيدها وترميمها حتى الانتهاء من شبكة المجاري للمياه الثقيلة ومياه الامطار. طيب لماذا لم تباشروا بتأسيس هذه الشبكة؟ يجيبك ان المقاول يعمل منذ 4 اعوام دون جدوى، فقد انتهى من تنفيذ المشروع لكننا اكتشفنا انه انجز شبكة مجاري المياه الثقيلة ونسي ان ينشئ الى جوارها شبكة لمياه الامطار، والقانون يصر على اكتمال الشبكة كي يسمح لنا بالتعبيد والترميم، وهذا سيأخذ وقتا اضافيا (عدة اعوام ربما؟) ولا حل سوى الانتظار.تسأل: لماذا يجري اختيار مقاول غير كفوء وخبرتكم تجاوزت 9 اعوام في السلطة؟ يجيبك بسرد تفصيلي قائلا: عليك ان تعرف مجموعة معادلات تتحكم بسير الاعمال في الدولة العراقية.المعادلة الاولى: ان الموظف المسؤول عن منح المشاريع للشركات اما ان يكون فاسدا او انه يخاف من الرقابة "حد المرض"، فيحرص على منح المشروع لصاحب العطاء الاقل ارضاء للمفتشين، وصاحب العطاء الاقل هو في الغالب شركة ضعيفة تنجز العمل على نحو ناقص. وإذا درسنا (والكلام للمسؤول) وضع الطرق الكثيرة المعبدة منذ 2003 وهي مئات الاف الكيلومترات في العراق، فسنجد انها تعرضت الى الخراب بعد شهور من استعمالها فقط!لماذا تتسلمون مشاريع بلا مواصفات؟ يجيب: معظم المختبرات التي تتولى تقييم المباني والطرق مثلا، لا تعمل بشكل علمي، والكثير منها فاسد والنتائج التي نتسلم على اساسها 70 في المئة من المشاريع المنجزة، مزيفة!المعادلة الثانية: المسؤول في المحافظات يريد انفاق 60 في المئة من ميزانيته على وجه السرعة لان مجلس الوزراء سيعاقبه لو تأخر في الانفاق، ولهذا يتسرع كثيرا في منح العقود كي ينفق تلك النسبة، ولن يكون لديه وقت كاف لتقييم الشركات المنفذة وتطبيق المعايير عليها ودراسة سيرتها المهنية، ومعظمها تذهب الى شركات فاشلة.المعادلة الثالثة: ان المال الوفير ادى الى ظهور مشاريع كثيرة (محافظة واحدة لديها ألفا مشروع خلال سنة)، بينما لا يمتلك القطاعان الحكومي والاهلي في العراق عددا كافيا من الشركات الخبيرة. هناك نقص حاد في الشركات الجيدة وفي الخبراء، ولذا يضطر الجميع الى تسليم مشاريع مهمة الى الاقل خبرة، والنتيجة مشاكل هائلة في معظم المنجزات.الى متى يستمر الحال على هذا المنوال؟ يجيبك: حتى تستقر الظروف الامنية، ويجري اصلاح القوانين الحكومية المتناقضة، بين معايير الحكومة ومعايير هيئات الرقابة ومعايير المحافظات.. وسيمكننا حينها منح عقود بمبالغ اكبر لشركات اجنبية او اهلية اكثر رصانة، اما اليوم فمن الصعب جدا وفق الضوابط المتشددة والظروف الراهنة، ان نمنح عقدا لشركة كبرى، ولا خيار سوى القبول بنتائج شركات عادية او شبه عادية.نقول له: لكن على الاقل هناك شركات جيدة تقوم بنصب محطة كهرباء جديدة في مدينتك؟ يقول: جيد ان الشركة المنفذة معروفة دوليا، لكن المنفذ الحقيقي هو مقاول ثانوي تدور الشكوك حول خبرته. مهندسونا يخشون ان المحطة التي يفترض ان تنتج 250 ميغاواط، لن تنتج اكثر من 150 بسبب عيوب التنصيب، والوعود ستختبر الصيف المقبل!خوف وتسرع وتقتير في اموال المشاريع يجلب شركات رديئة، وقوانين متضاربة وأموال مهدورة، ومستثمرون يهربون من اجراءاتنا، وشركات سمعتها جيدة تحظى بمشروع بتمويل كبير، ثم تسلمه لمقاول سيئ، ونقص فادح في الخبرات المحلية وهلم جرا. هذه خلاصة 9 اعوام من العمل أدلى بها مسؤول يشعر بإحباط كبير، وبالمناسبة فإنه من كتلة رئيس حكومتنا (يعني لا بعثي ولا صدامي ولا صدري ولا كردي)."العملاق العراقي" تمتلئ جيوبه بالدولارات الكثيرة، واثناء مشيته المتعثرة وسقطاته المتكررة، تتساقط الاموال من جيوب عديدة في ردائه الكالح الذي استبدله مرات ومرات لكنه ظل يتمزق فورا اثر العثرات والسقطات على صخور مسننة يمشي عليها دون التقاط نفس، متجنبا الطرق المعبدة والمعقولة. ان الدوار الذي اصاب عملاقنا المسكين يمنعه من رؤية طريق، اي طريق.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

حياتي وموت علي طالب

حياتي وموت علي طالب

غادة العاملي في لحظة تزامنت فيها الحياة مع الموت استعدت ذكريات عشر سنوات ،أو أكثر .. أختصرها الآن في ذاكرتي بالأشهر الثلاثة الأخيرة. حينما اتفقنا أناقرر هو أن يسافر ملبيا الدعوة التي انتظرها لأكثر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram