يوسف أبو الفوزلطالما حلم العراقيون بدولة مدنية ، تفصل الدين عن الدولة ، ويكون الأساس في بناء هذه الدولة الحديثة هو المواطنة ، فأوروبا لم تخط خطواتها في الحضارة والتمدن والتطور، إلا بعد أن أنجزت هذه الخطوة التي لا يوجد فيها إجحاف للأديان بل تكون حرية الفرد مكفولة بما في ذلك معتقده الديني ، فالدولة المدنية ، دولة المؤسسات والقانون ، تضمن حقوق المواطن المتدين من أي دين كان . والدولة المدنية في دستورها تعبر عن المجتمع وتكون وكيلا عنه ،
تستند إلى قيمه ومبادئه ، وفيها يختار الشعب بشكل ديمقراطي حكامه وممثليه ، فهو يملك إمكانية محاسبتهم وعزلهم إن أراد ، وبهذا التعريف الشائع والمتفق عليه من قبل الكثير من المفكرين والباحثين ، فإن الدولة المدنية هنا ستلبي جميع تطلعات الاتجاهات الدينية وخصوصا الإسلامية . أما ما يثار الآن من نقاش في البرلمان العراقي ، حول المحكمة الاتحادية ، التي يفترض أن تكون هيئة مستقلة ، ومحاولة ربط قراراتها بموافقات المراجع الدينية الإسلامية ومنحهم حق الفيتو، فهذا سيكون وأداً وقتلاً مباشراً للحلم العراقي بالدولة المدنية ، بل ببساطة سيحول العراق إلى دولة دينية ، وبالتحديد إسلامية ، والعراق معروف بالتنوع الديني والطائفي !مع تصاعد الدعوات للدولة المدنية في العراق ، من بعد سقوط نظام صدام حسين الشمولي ، راحت أحزاب الإسلام السياسي عندنا تروج ، عن دراية وتقصد ، بكون العلمانية تعني الإلحاد ، والعلمانية (Secularism) كما صار معروفا لكل مبتدئ بالسياسة هو ببساطة فصل الدين عن السياسة وليس لها أي علاقة بالإلحاد (atheism) الذي هو مدرسة فكرية مختلفة . والعلمانية أيضا تعني عدم قيام الحكومة أو الدولة بإجبار أي مواطن على اعتناق وتبني معتقد أو دين أو تقليد معين لأسباب غير موضوعية وألا يكون للمؤسسات الدينية تأثير ما على القرارات السياسية ، كما أن العلمانية لا تقف ضد الدين كشعائر ومعتقد روحي ، بل تقف بشكل محايد ، وأمامنا عقود طويلة من التجربة المعاشة في الدول الأوروبية وأمريكا ، حيث لا تفهم هناك العلمانية بأنها ضد المسيحية ، الدين السائد عندهم ، بل هي طريقة للحكم ، مستقلة عن الدين ولا تفرض قيودا بل تهتم بالحياة والتطور وفق القوانين الدنيوية . لقد ظهرت الدعوات للدولة العلمانية في أوروبا في أواسط القرن الثامن عشر ، في فرنسا تحديدا ، وانتقلت هذه المفاهيم إلى الشرق في نهاية القرن التاسع عشر ، لكن أوروبا نجحت في بناء دولتها المدنية ونجحت في قطع أشواط طويلة من التطور والتقدم بينما ظل الشرق غارقا في أشكال مختلفة من نماذج الحكومات والدول الشمولية التي لم تفعل شيئا لتطور مجتمعاتها بل حولتها إلى مجتمعات تابعة ومستهلكة لما ينتجه الغرب العلماني والمتطور. وإذ أن مدلول العلمانية المتفق عليه يعني عزل الدين عن الدولة وحياة المجتمع ، فإن الدولة الدينية هي بشكل آخر تعني دولة شمولية ، ولا تتفق مع المبادئ الديمقراطية ، وسيحدث عندها كما في تجارب عرفتها شعوب المنطقة ، مثل إيران وأفغانستان ، حيث مصادرة حقوق المواطن باسم الشريعة والدين ، وبناء نموذج حكم شمولي لا يختلف في الآليات عن نموذج الدولة القومية المتسلطة ـ دولة صدام حسين مثلا ـ ، حيث ستتم أدلجة حياة المجتمع باسم الدين وفقا لاجتهادات رجالات الدين وتفسيراتهم ورجالات الدولة المرتبطين والتابعين لهم ! إن كل المفكرين والمثقفين يعرفون بأن نقيض الدولة الشمولية هو الدولة الديمقراطية التي تعني الدولة غير الأيديولوجية ، دولة القانون والمؤسسات ، وهذه لا يمكن أن توجد إلا في دولة مدنية لا يحكمها رجال الدين بأي شكل كان ، فلو تم إقرار قانون المحكمة الاتحادية بالشكل الذي تريده جماعات الإسلام السياسي في العراق، فهذا يعني أن العراق سيتحول إلى جامع كبير ، كما هو في إيران ، فالدين هنا سيتحول بيد الدولة إلى سوط تجلد به المواطن العراقي ، وفي بال كل عراقي ما يعانيه المواطن الإيراني والأفغاني من تعسف السلطات الدينية هناك ، التي تتدخل في ابسط تفاصيل حياة الإنسان ، حيث لا وجود للحرية الشخصية ، ولا لحرية التعبير ، ولا وجود للقوانين التي يمكن أن تحفظ للإنسان كرامته ، فقط في الدولة المدنية يمكن للدين أن يكون ملاذا روحيا للإنسان تنظمه أعراف وقوانين الدولة المدنية التي تحفظ حقوق الإنسان ومنها حقه في ممارسة شعائره الدينية بعيدا عن تدخلات السياسة والسياسيين!
وأدُ الحلم المدني في العراق !
نشر في: 12 أغسطس, 2012: 06:20 م