أحمد عبد الحسينمن راقب ردة فعل المصريين، حكومة ومحكومين، نخباً ومواطنين، على قتل 17 عسكرياً في حادث إرهابيّ غامض في سيناء، يدرك أن مصر ـ مثلها مثل أية دولة سويّة ـ لا تستطيع التعايش مع الإرهاب. صحيح أن بعض ردود أفعال أشقائنا المصريين مبالغ فيها، لكنها مبالغة مطلوبة ومرغوبة ما لم تبلغ حدّ العنف، كالتهويل الإعلاميّ الفائض عن الحدّ الذي أبدته وتبديه صحف وفضائيات مصرية،
هذا فعل محمود لأنّ مسألة مصيرية، كتسلل الإرهاب إلى دولة ما وتهديد أمنها، يلزم أن يقابَل بالتهويل والمبالغة، ولا تنفع إزاءه كلمات حكماء تتساوى حكمتهم ـ في فضاء الكارثة ـ مع كلمات رجل غير مبال أو جبان يتستر على جبنه بكلمات عقلاء يرون النار تشبّ في بيوتهم وهم يتداولون أطراف حديث حكيم.الدول التي تحترم نفسها وشعبها تكترث للكارثة. هذا بديهيّ، ردة الفعل الغاضبة والمبالغ فيها يتوقع صدورها من الحكومات والمواطنين على السواء، قبل أعوام حين انفجرت قنبلة في محطة قطارات بإسبانيا، خرج تلقائياً مليونا مواطن إسباني تنديداً بالإرهاب، إن شعباً يتظاهر فيه مليونا شخص لا طلباً لثواب أو بتحريض من سياسيّ أو مقدس، لهو شعب يستحقّ أن يكون آمناً.وقبل يومين فقط قدّم وزيرا داخلية ودفاع أفغانستان استقالتيهما من منصبيهما لأنهما فشلا في توفير الأمن لأبناء وطنهما، ردة فعلٍ تتوقع من شخص مسؤول يمتلك حداً أدنى مما يمكن أن يكون ضميراً إنسانياً سوياً.الإسبان والمصريون والأفغان، دولة متقدمة وأخرى أقلّ تقدماً وثالثة تشبه دولتنا في الجهل والتخلف وفساد الساسة ولصوصيتهم، دول تأبه لما يحدث لها، وتهتم لما يراد بها، وتبدي النخب فيها والناس ردود فعل طبيعية، ويتحمل الساسةُ مسؤوليتهم عن الدم الذي يراق بسبب فشلهم المزمن.لكننا في العراق نمط آخر من البشر، فسياسيونا ذوو طبع تأنف منه حتى وحوش الفلا وكواسر البرية، يتلذذون بمرأى الدم العراقي ما دام ليس دمهم ولا دم أبنائهم، يخرج علينا مسؤول أمني ـ بعد مقتل مئة عراقيّ ، ليقول بوقاحةٍ لا يملكها إلا مجرم محترف في مافيا: "إن الحادث الإجرامي هذا لا يشكل خرقاً أمنياً". لم يستقل أحد، لا رئيس الوزراء الذي هو ذاته وزير داخلية، وهو ذاته وزير دفاع، وهو ذاته القائد العام لكلّ المسلحين وغير المسلحين، ولم يستقل أحد مستشاريه الأمنيين ولا أحد قادته المقربين.لكنْ بالمقابل ردة فعل الشارع، والمثقفين والنخب والناشطين المدنيين، مخيبة للآمال، استمرأنا الإرهاب وبتنا نتعاطى معه بتلقائية من اعتاده، وهو سبب رئيس لبقائه معششاً عندنا يخطف أرواح أبنائنا.حتى ردة فعل الإعلام باهتة ومثيرة للشفقة، ربما لأن الجهد الحكومي تمكن ـ بالترغيب والترهيب ـ من تدجين كثير من وسائل إعلامنا وأخصاها فجعلها تنطق بما تريد حكومة فاشلين لايستقيلون.كم نحتاج المبالغة والتهويل، مبالغة المصريين وتهويل الإسبان والحدّ الأدنى، الأقلّ الأقلّ من إنسانية امتلكها ساسة أفغان وافتقدها السياسيون عندنا إلى الأبد.
قرطاس: مبالغة وتهويل
نشر في: 12 أغسطس, 2012: 06:22 م