أربيل/ سالي جودت
حين قرأت عنوان هذه البناية انتابني شعور بأن الزمن قد يلعب لعبته مع المرء ويحيله إلى كائن مسكون بالوجع فتنظر إلى المستقبل وتخاف أن تكون واحدا من ساكني هذه الدائرة بعد أن أفنيت عمرك في العمل وفي تربية فلذات أكبادك فانك، وبالعكس ستحمد الله على نعمه لان دينك إلى الأبناء مسترد إليك فأحاطوك برعايتهم. فدار رعاية المسنين.. من اسمها تعرف ساكنيها.. ومن اسمها يأتيك الجواب بأن هذه الدار لا يملكها الساكنون ولم يستأجروها بل الزمن هو الذي جعلهم في هذا المكان لأسباب خرجت عن إرادتهم.. رجال ونساء أصابهم الدهر بالوحدة ليكون القلق احد أهم مكونات شخصياتهم ولولا هذه الدار لكان حالهم الضياع. رجال ونساء عجائز وجدوا ضالتهم في هذا المكان ليحصلوا على الرعاية بعد أن فقدوا حنان من كانوا يعيلونهم وأصبح ائتمان الحياة فاتورة يدفعونها بصمت بين جدران هذه الدار وأصحابها الموظفين الذين نصبوا أنفسهم ليكونوا البديل عن فلذات الأكباد.
آباء وأمهات السيدة بيان حسن مديرة رعاية المسنين العاجزين تدير بناية يسكنها أكثر من 69 مسنا فتحولوا عندها إلى آباء وأمهات تقول: تأسست هذه الدار عام 2009 وكانت تضم قسمين؛ قسم المسنين الطبيعيين، والآخر قسم المسنين العاجزين وفي سنة 2011 تم افتتاح دار جديدة تواصل عمل الدار السابقة، هذه الأخرى تقسم إلى ثلاثة أقسام: قسم المسنين الطبيعيين، والعاجزين، إضافة إلى القسم الثالث الذي يسمى السنتر اليومي وهو يضم المسنين الذين يتوافدون كزوار مؤقتين إلى هذه الدار، الغاية منه خلق نوع من الاندماج والاختلاط ما بين المسنين الدائمين والمؤقتين، وذلك لعدم شعور المسن بالانعزال عن العالم الخارجي، فهم بحاجة إلى رعاية من نوع خاص رعاية لا يمكن توفرها إلا بالصبر والعناية الخاصة.. فهم فقدوا الأمل أو إنهم اعتقدوا أنهم فاقدو هذا الأمل حين وجدوا أنفسهم عاجزين عن الاستمرار مع الحياة في بيوتهم الأولى أو إن الأولاد والبنات وجدوا في هذه الدار سبيلا لكي يرتاح الجميع أو إن الظروف الاقتصادية لعبت في مقدرات البعض ولم يجدوا معينا لهم غير دار الرعاية. وتضيف الست بيان أن عدد المسنين من الرجال يربو على 45 مسنا، في حين عدد المسنات وصل إلى 22 مسنة.. وتؤكد أن اغلب المسنين هم من أربيل وأحيانا من خارج أربيل شرط أن يكون عراقي الجنسية وهذا يدل على إن سمعة الدار جيدة وان الخدمات فيها لا تتوفر في دور الرعاية في المحافظات الأخرى، وهناك أسباب أخرى دفعت بأهل المسن إلى إسكانه في هذه الدار، إذ إن البعض منهم قد فقد ذاكرته فأصبح بالنسبة للأولاد مشكلة يعانون منها.
شروط الدخول تقول هناك شروط عدة للقبول: أولها أن يكون عراقي الجنسية ويفضل أن يكون من إقليم كردستان، ثانيا ان لا يقل عمر المسن الرجل عن 60 عاما وعمر المسنة عن 55، ثالثا يكون خالياً من الأمراض المعدية خصوصا مرض السل الرئوي، رابعا أن لا يكون مختلا عقليا. في بداية القبول يتم إجراء دراسة حالة المسن أو المسنة ومعرفة سبب المجيء لهذه الدار ومن ثم إجراء الفحوصات لهم. أما عن تقديم الخدمات فقد قالت في البداية تقدم لهم كسوة شتوية وصيفية وكافة الاحتياجات الأخرى، اضافة الى تقديم ثلاث وجبات طعام الفطور والغداء والعشاء وما بين الفترات تقدم لهم الفواكه والعصائر، وأضافت تقام السفرات في شهر آذار الى المصايف، ناهيك عن وجود قاعات رياضية وترفيهية كمشاهدة التلفاز وأحيانا تقام الحفلات في بعض المناسبات على سبيل المثال وقبل شهر تمت إقامة حفلة زفاف لمسن ومسنة تم عقد قرانهم بعد قصة حب دامت سنتين، كما صرف لهم مبلغ شهري قدره 45 ألف دينار رغم أن البعض متقاعدون. وعن الخدمات الطبية قالت: يتواجد لدينا في الدار معاون طبي وهناك تنسيق ما بين وزارة العمل والصحة بتوفير كادر طبي يقوم بإجراء الفحوصات الدورية اللازمة لهم إضافة الى إجراء العمليات الجراحية إن وجب ذلك، حالات عديدة تم إجراء لها عمليات جراحية اغلبها في العيون والحمد الله كانت ناجحة. يقال هناك تقصير في الخدمات والرعاية ما تعليقكم؟ لا يمكن أن يقال هذا وأنا جدا متأكدة ومصرة على اهتمامنا ورعايتنا للمقيمين في هذه الدار، قد يكون هناك تقصير وإهمال لبعض الحالات وأحيانا المعاملة غير اللائقة لهم لكن منذ تسلمي هذه الدار الجديدة وتحملي مسؤولية هؤلاء المسنين لم يصدر عنّا وعن العاملين بصورة عامة أي إساءة لهم.. وتساءلت ألا يكفي ما فعله الزمان والظروف بهم؟ واختتمت حديثها قائلة "الدار بمثابة الملاذ الآمن لهم".
رأي الباحث يقول الباحث الاجتماعي مجيد حميد: بين مرحلة الشباب ومرحلة الكهولة شوط من العمل والإيمان.. ولكن للكهولة أحكامها.. بين هذين الشوطين يستطيع الابن أن يسدد الدين لأبويه فلا يغمط حقوقهما ولا يسلب حريتهما حين يكبران ولكن ما بال الأبناء وهم ينتهكون حرية الآباء وحرمة الأمهات؟.. وضعت هذا التساؤل وأنا أرى حالة المسنين.. وتخيلت اللحظات الأولى التي جاءوا بها إلى دار الرعاية.. أتخيل أنهم كما الأطفال يقادون من الأبناء ليتخلصوا من تسديد الدين الذي يبقى في رقابهم مهما طال الزمن وربما سيقعون في المصير ذاته حين يقودهم الأبناء بأيديهم إلى هذا المكان لان أولادهم سيردون الدين بذات الطريقة. إن بعض هؤلاء المسنين يأتي بهم أولادهم ومن ثم يتبرأون منهم لا لشيء إلا لأنهم اعتبروهم جالبي سخرية من قبل المجتمع أو اعتبروهم عائقا في حياتهم أو للهرب من مشاكل تصادفهم بسبب العمر الذي لف هؤلاء الكبار الذين يحتاجون إلى رعاية خاصة. والبعض الآخر اعتبرهم عائقا إذا ما كان مستواهم المعيشي قد تطور وان الحياة أصبحت في عيون الأولاد بلون مختلف في حين ما زال الآباء والأمهات يسبحون بذات الألوان القديمة ويعتبرونها هي الأصل فيحصل الاختلاف بين جيلين. ويضيف: أن البعض الآخر يأتي بنفسه ليعيش عيشة كريمة بين جدران هذه الدار أفضل من الإهانة. فحين يدخل المسن الدار فان الحياة لديه تصبح مختلفة ويحتاج إلى التأقلم مع الوضع ومع النزلاء الآخرين فحالة المسن صعبة وهو يخطو خطوته الأولى إلى الدار وكأنهم مكبلون بالهموم.. فتضيق الدنيا في أعينهم.. إلا أن إيمانهم القوي ورؤيتهم للعاملين في الدار الذين يعتبرون كل نزيل هو أباً أو أماً يغير الصورة بمرور الوقت.. إذ تبدأ الخطوة الأولى لدينا وهي الرعاية والعطف وتخفيف الهموم.. وإن بعض المسنين وهذا مؤكد مصابون بأمراض عديدة بحكم عامل العمر فتتولى الدار علاجهم حيث يوجد هنا معاون طبي يقوم بفحص المرضى وعلاجهم، وإذا ما كانت هناك حاجة إلى طبيب اختصاصي تتم إحالتهم فإن الدار مسؤولة عن الاتصال بأحد الأطباء الذي يأتي بدوره لتقديم العلاج. وأنا كباحث اجتماعي ومن معي نقوم بالإشراف النفسي والاستماع إلى معاناتهم وعلاج حالتهم النفسية وذلك بالتقرب منهم وجعلهم يشعرون بالثقة والطمأنينة تجاهنا، نكون لهم الأبناء الذين فقدوا حنانهم.
دعم شحيح لا بد لمثل هذه الدار من أن تحتاج إلى معونات من جهات أخرى.. لان الوضع مختلف بين هذه الدار وأية دار أخرى.. وللذين يبحثون عن الحسنة في الدنيا عليهم أن يأتوا بأموالهم إلى هذا المكان لكي يزيحوا ولو الشيء البسيط من هموم تجاعيد المسنين. ويقول الباحث الاجتماعي حميد: سابقا كانت تأتينا المساعدات من جهات عدة.. واليوم باتت قليلة وليست بالمستوى المطلوب.
الصيدلية والأدوية المفقودة في الدار مسنون ومسنات وهذا يعني الحاجة إلى أدوية والى صيدلية تقوم بهذا العمل يوجد لدينا أدوية كافية لبعض الأمراض وهي تكفي لجميع الأمراض؟ وفي حالة النقص لبعض الأدوية نعمل على شرائها من الخارج وأحياناً المستشفيات توفرها لنا. وأضاف في الدار تجد الرعاية والبساطة والألفة.. وتجد القلق والخجل.. فتنحني أمام ابتسامة صغيرة خارجة من فم أدرد ومن وجه أكلته التجاعيد. فحينما تقترب من أحد المسنين فتسأله: هل أنت مرتاح هنا؟ فيأتيك الجواب ببساطة من تعودوا البساطة في زمن كان بسيطا.. نعم أنا مرتاح.. كلهم يجيبون بنفس الإجابة وكأن لا حياة له خارج هذه الدار التي أصبحت هي المأوى الأخير له وهي السقف الذي يحميه من غدر الزمن.
تركتها صغيرة! مسنة أطلقت آهتها بعد أن أثنت على العاملين وقالت عنهم إنهم أولادها وبناتها وهم يقدمون الرعاية الكاملة لنا ولولاهم لما شعرنا بالأمان.. ولكنها أطلقت آهتها حين سألناها عن أولادها وإذا ما كانوا يزورونها فقالت: نعم لدي ابنة واحدة رزقني بها الله، توفي والدها وهي في السادسة من عمرها، وعلى اثر ذلك فقدت بصري لم استطع توفير الحاجيات المطلوبة لها فأرسلتها الى دار الأيتام ومن خلال الدار تبنتها عائلة تعهدوا بتربيتها إلى أن أصبحت في السابعة عشرة من عمرها طالبت بلقائها إلا أنهم منعوها وقالوا إني تخليت عنها، أصبح قلبها كالصخر علي لا تأتي لزيارتي. ثم أحنت رأسها وكادت الدموع تطفر من عينيها. فامتنعنا عن طرح أي سؤال آخر، وعلق الباحث الذي كان برفقتنا "إن البعض لا يزورون آباءهم أو أمهاتهم وكأنهم قطعوا الصلة بهم نهائيا فتحولوا إلى أبناء عاقين".
أدت رسالتها ولكن.. مسنة أخرى تبكي بحرقة شديدة بعد أن سألناها متى أتيت إلى الدار فقالت: هناك مثل يقول "قلبي على قلب ولدي وقلب ولدي علي من صخر"، جئت قبل خمس سنوات بعدما فنيت شبابي في رعاية أولادي الخمسة بعد وفاة والدهم كان أصغرهم يبلغ عمره سبعة شهور لم أكن أعمل ولا حتى لدي تأهيل علمي للعمل، ففي البداية عملت طباخة وبعدها خياطة، كنت أخيط الأشياء البسيطة في المحلة التي أسكنها واستطعت أن أكمل رسالتي، أولادي كبروا وتعلموا وحصلوا على الشهادات العالية كبرت فرحتي معهم وأنا أرى ثمرة تعبي ومن ثم تزوجوا وكونوا أسرهم، من هنا بدأت مأساتي بدأوا يستنكفون مني أمام أصدقائهم وأولادهم، كل أسبوع أحمل حقيبتي من بيت إلى آخر من مهانة إلى أخرى إلى أن قررت أن أذهب إلى هذه الدار وهي الملاذ الآمن الذي أحفظ به كرامتي، أحيانا البعيد أحن من القريب، منذ أن سكنت الدار والى هذا اليوم لم يأتوا لزيارتي ولو مرة ويسألوا إن كنت على قيد الحياة أم لا؟ رغم معارضة الأبناء! أما المسن حميد فيقول: هذا المكان أفضل بالنسبة لي رغم معارضة أبنائي لي لكني أصررت على المجيء إلى هنا، بعد أن فقدت زوجتي وأنا في الستين من عمري، كان من الصعب علي العيش مع أحد أبنائي أو بناتي مهما تكن زوجة الابن فهي لا تتحمل رجلا مسنا تعد له الطعام وتغسل ملابسه ونفس الشيء لزوج ابنتي من الصعب أن أعيش عالة على رزق شخص غريب حتى لو كان زوج ابنتي، لذا كان أفضل حل لي العيش هنا، المكان مريح من خدمات ونظافة وترفيه، استطعت أن أكوّن صداقات مع مسنين نلعب الطاولي ونشاهد التلفاز، أما أولادي فإنهم يأتون لزيارتي بين الحين والآخر. زواج جديد المسن جبار والمسنة كوليزار كان لهما الدار بمثابة الأمل الجديد فقد عاشا قصة حب دامت سنتين وتزوجا في الشهر الماضي، واليوم يعيشان معا كما يقال على الحلوة والمّرة، سردا لنا حكايتهما، فقال جبار: جئت قبل سنتين فانا غير متزوج وليس لدي من يرعاني لذا كان اختيار العيش في هذه الدار استقرارا وأملا جديدا، بنفس الوقت تعرفت الى كوليزار وأحببتها فقررت الارتباط بها لنكمل حياتنا معا. اما كوليزار فقالت منذ 5 أعوام وأنا أعيش في هذه الدار، أبنائي أتوا بي الى هنا وتركوني دون أن يسألوا عني، عشت في بداية الأمر في غربة ووحدة إلى أن جاء جبار فكان لي الأمل الجديد والحياة الجديدة تزوجنا وها نحن نعيش ما تبقى من أيامنا في حب وسعادة وراحة، كل شيء متوفر لدينا ولم يقصروا معنا بشيء الحمد الله على كل شيء.
أسرة نموذجية يتحدث مسن آخر فيقول: جاء بي القدر إلى هنا بعد حياة أسرية كان الجميع يمثلها بالنموذجية، أسرة تتكون من أب وأم وابنتين شاء القدر أن يفرقنا، مصاعب الحياة والمشاكل اجتاحت حياتنا بسرعة وقوة حتى وصلنا إلى طريق مسدود أدى بنا إلى الانفصال احتضنت زوجتي بناتي بحكم القانون ولم تكتف بذلك بل انها أخذت تزرع لهيب الكراهية في قلوبهم، وهذا ما جعلهم يبتعدون عني ولم يفكروا في يوم بزيارتي، حاولت مرات عدة الاتصال بهم إلا أنهم لم يبالوا وهذه السنة السادسة لي في هذا الدار وهم بعيدون عني لم يفكروا بزيارتي، فقبل أن أجيء الى هذا الدار كنت أتمنى أن أودع حياتي التي لا طعم لها ولكن اليوم تجددت رغبتي بالحياة رغم أني فقدت صلة الرحم ولكن بنفس الوقت وجدت أيدي دافئة تحنو علي وأناس تسألني عن صحتي وما احتاج إليه.