TOP

جريدة المدى > مقالات واعمدة ارشيف > حرف علّة:بغداد الضائعة

حرف علّة:بغداد الضائعة

نشر في: 13 أغسطس, 2012: 05:55 م

 عواد ناصر في طريقي إلى العمل لفت انتباهي كتاب في فاترينة محل لبيع الكتب الإنكليزية عنوانه: "The Lost London" تزين غلافه صورة بالأسود والأبيض لمعلم لندني قديم، ومنكم من يقدر جماليات الصور غير الملونة بتأثيرها في الذاكرة قبل العين، حتى تداعت مدينة نشأتي وأحلامي وحماساتي وغرامياتي:
بغداد.. بغداد الضائعة التي تمنيتها عنواناً لذلك الكتاب يضعه عراقي، أو مجموعة عراقيين، يهجس المدينة تحت جلده فتتبدى نبضاَ ملوناً، حتى بالأسود والأبيض، منذ تأسيسها المرتبك حتى انحطاطها الحالي.لا بدّ من التنويه بذلك الكتاب الرائد والحار الذي وضعه صديقنا عامر بدر حسون، بداية التسعينات من القرن المنصرم، بعد أن جمع لبغداد، صوراً، من أرصفة الكتب القديمة بدمشق وحاويات القمامة، حسب مقدمته، بعد أن بذل فيه أقصى ما يملك من طاقة الشغف وأمانة المهنة ليخرج مثل "ألبوم" كبير جاء على أفضل ما يمكن من تلك المطبعة السورية المتواضعة، وبتغليف "متطور" قياساً بالممكن والمتاح والمتيسر.طلب فريد - قبل الشروع بالطبع - إسهاماً مسبقاً (استكتاباً مالياً) ممن تعنيهم بغداد وكتابها المأمول  لشراء الكتاب كي يسدّ تكاليف الطباعة التي تولاها على حسابه الخاص.اليوم، أراني أتمشى في شارع بغدادي شهير حيث أعمدة الكهرباء مضاءة وإعلانات النيون تعلن عن (ميتشلن لإطارات السيارات) في ساحة التحرير، وأنحدر لأدخل شاعر الرشيد وهناك شركة (حسو إخوان) وليس بعيداً عنها شركة (جقماقجي) لتسجيل الاسطوانات، وبعد مسيرة ربع ساعة تقريباً سأبلغ (أورزدي باك) قبل أن يتحول إلى عنبر لبيع البضائع المحلية، سيئة الصناعة والذوق، ولا أنسى المكتبة المجاورة (مكنزي) لبيع الكتب والمجلات الانكليزية والأمريكية، قبل أن أدخل مقهى (البرازيلية) وهناك وكر الشلة الذكية التي لم أجرؤ، وقتها، على الاقتراب من أي منهم: محمد مهدي الجواهري وحسين مردان وعبد الوهاب البياتي وعلي جواد الطاهر وغائب طعمة فرمان وعلي الوردي وفؤاد التكرلي وعبد الملك نوري وادمون صبري، يتناوشون بغداد في ذكريات ومذكرات وقصائد ونصوص، في السياسة والفن والأدب والإعلام.شعرت بالجوع فدلفت إلى مطعم (السويس) ليس بعيداً عن (البرازيلية) فتناولت طبقاً من الرز والفاصوليا اليابسة وصحن من السلطة، فكانت وجبة لم أذق مثلها حتى اليوم.هذا محل المصور العراقي الشهير: آرشاك، في الواجهة صورة شهيرة لجميل صدقي الزهاوي، شاعر السفور والمخترعات والبخار والفلسفة، يتداعى فوق كرسي بقامة شيخ متعب، ضعيف البنية بلحية غير حليقة، بينما تجمعت تحت قدميه أعقاب السجائر، وعلى الفاترينة المجاورة صورة عبد السلام عارف بملابس التشريفات يستند إلى سيف، والتي ستحل محلها صورة رئيس جمهورية آخر بإيقاع سريع هو إيقاع تبدل الرؤساء وتفريخ الانقلابات العسكرية اللاحقة.كان التسكع طقساً ثقافياً يضع المتسكع في مفردات المدينة: الباصات الحمر والتاكسيات والفتيات السافرات أو شبه السافرات (بعباءات سود تكشف أكثر مما تستر) والمكتبات في ساحة التحرير وشارع الرشيد وسوق السراي وشارع المتنبي وقاعات السينما التي تمتلئ بالعوائل والعشاق والمثليين وكأنهم يعيشون في غرف متجاورة، ولا أنسى ذاك الريفي الذي قال لصاحبه ما أن أُطفئ النور في الصالة، إيذاناً ببدء عرض الفيلم: لنخرج، خلص الفيلم!هذا بار (شريف وحداد) بار الزعيم، كان يتناول غداءه فيه ولا يقرب الخمرة، وفيه جرت لقاءات خطرة للتحضير ليوم 14 تموز 1958، وعلى مقربة منه بار (جبهة النهر) الذي كتب فيه سعدي يوسف قصيدة من أولى قصائده.سهرت هناك مع شلة من هواة الأدب والفن حتى وجدت نفسي في الشارع والساعة تقارب الساعة الثانية فجراً وأنا بلا مال يكفي لتكسي أو للمبيت في فندق!قلت: سأتسكع حتى الفجر، وهذا ما حصل.دخلت جامعاً مفتوح الباب فاستقبلني شيخ بإهاب نوراني عرفت أنه المؤذن، فاستضافني في الجامع رغم رائحة الخمرة التي تنبثق من أرداني وخشمي وفمي الملتوي.بعد لا أدري كم من الوقت أيقظني من النوم وهو يحمل صحن شوربة عدس وصمونة جاء بهما من بيته!من يكتب، اليوم، كتاب (بغداد الضائعة) أسوة بكتاب (لندن الضائعة)؟

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

حياتي وموت علي طالب

حياتي وموت علي طالب

غادة العاملي في لحظة تزامنت فيها الحياة مع الموت استعدت ذكريات عشر سنوات ،أو أكثر .. أختصرها الآن في ذاكرتي بالأشهر الثلاثة الأخيرة. حينما اتفقنا أناقرر هو أن يسافر ملبيا الدعوة التي انتظرها لأكثر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram