TOP

جريدة المدى > مقالات واعمدة ارشيف > منطقة محررة: بريد الجنوب ولا أحد كاملاً

منطقة محررة: بريد الجنوب ولا أحد كاملاً

نشر في: 14 أغسطس, 2012: 06:04 م

  نجم واليالمرة الأولى التي سمعت فيها بـ "بريد الجنوب"، كان لي من العمر سبعة عشر عاماً، عام 1973 بالضبط. في ذلك الوقت كنت أحد تلك الشلة الصغيرة من مثقفين شباب. كنا نعيش في مدينة العمارة، وكنا في نظر الناس "مخابيل"، "وجوديين بلا أخلاق" أو في أحسن الأحوال "متمردين" صبيان!
بغض النظر عن مظهرنا اللافت للنظر - كنا نلبس بنطلون التشارليستون الضيق فوق والعريض من الأسفل، شعرنا طويل- سرنا في الشوارع ودائماً الكتب بين أيدينا. طبعاً مع العنوان إلى الخارج، للعرض لا غير.هكذا حصل في الحقيقة اعتقالي الأول. كنت أحمل كتاب فريدريك أنجلز بترجمته العربية "حروب الفلاحين" معي. وحدها لحية أنجلز التي تشبه المكنسة كانت جذابة للنظر. الأتعس من ذلك، هو أن هذا الكتاب مثل الكتب الشيوعية الأخرى كان ممنوعاً. لكن ماذا يعنينا المنع. كنا نريد الاستفزاز، وفي ذلك كنا صادقين، مخلصين، وحازمين.مصروف جيبنا لم يكفنا غالباً لشراء الكتب، رغم ذلك كنا نفعل المستحيل للحصول على الكتب. الكتب الكلاسيكية كنا نعثر عليها في المكتبة المركزية العامة. البقية، خاصة الكتب المترجمة حديثاً، كان علينا شراؤها. في بداية الستينات كانت العاصمة اللبنانية بيروت بالنسبة للعالم العربي هي مركز عالم النشر، موجة كبيرة من الترجمات الحديثة ومن معظم اللغات انطلقت هناك. قبل كل شيء، الأدب الفرنسي طبعاً.كان لبنان في الماضي مستعمرة فرنسية، وكانت اللغة الفرنسية بمثابة الأم، ناهيك عن دعم المعهد الفرنسي للترجمات. لكن بالنسبة لنا لم يكن من المهم من أية قومية تأتي الكتب. كنا كما يقول المثل، عثة كتب، جائعين لكل ما هو جديد. لذلك قالوا في حينه: "بيروت تطبع وبغداد تقرأ"، بسبب نهمنا للقراءة.طبعاً في كل قومية كان لنا مثالنا الأدبي. كنا نقرأ كل الآداب العالمية، كتّاب اللغة الألمانية: ريلكة، كافكا، هسة، الأخوان مان، أريش ريمارك، بريشت، الأميركان: أدغار آلان بو، فوكنر (وليس فولكنر كما كتب محرر إيلاف "الثقافي"!)، شتاينبك، همنغواي، فيتزجرالد،  الفرنسيين: سارتر، كامو، مارلو، جيد، دوبوفوار، وطبعاً أنطوان سنت أكزبري.ما أزال أتذكر بالضبط اللحظة التي انتهيت فيها من قراءة الجملة الأخيرة من رواية "الأمير الصغير". كنت في الباص قادماً من بغداد في طريقي إلى بيت أهلي في العمارة. عندما انتهيت من قراءة الكتاب، ضممته وضغطت عليه على صدري، وأسندت رأسي إلى شباك النافذة. تطلعت بالشمس التي بدت مثل برتقالة مشتعلة وبدأت تودع نفسها خلف الأفق. لم يدم الوقت طويلاً، حتى شعرت بالدموع تبلل حدي. لم أشأ أبداً وداع الأمير الصغير. ببساطة.منذ ذلك الحين لم أترك عملا لأكزوبري ولم أقرأه. لذلك عندما طلبت مني صحيفة "تاغيز تزايتونغ"، الصحيفة اليومية الألمانية المعروفة اختيار عنوان لعمودي نصف الشهري كل خميسين (ولأنه أول عمود فسيُقدم بصورة خاصة مع الصور السبت الماضي 11 آب)، خطر على بالي مباشرة "بريد الجنوب"، إحدى رواياته الجميلة، كما "الأمير الصغير"، و"طيران الليل" أو "المدينة في الصحراء". طياروه دائماً في طريقهم إلى بشر آخرين، يبدون في نفس الوقت كما لو إنهم جاءوا من كوكب آخر، لكي يجلبوا لنا مع بريدهم الحكمة. سانت أكزوبري حول الطيران إلى كتابة شعرية. لذلك أردت أن أقرأ بريد جنوبـ"ـه" من جديد، والذي تُرجم إلى الألمانية بعنوان "رسول الجنوب"، والذي يعني في الألمانية المراسل العسكري أكثر. لذلك بدت لي الترجمة الألمانية ليست في نفس العلو الذي أراده الأصل، المعنى الشعري يختفي في الألمانية.لكن لمفاجأتي جلبتني القراءة الجديدة على اكتشافات جديدة. لأن في النسخة الألمانية التي بين يدي الصادرة عن دار فيشير، نصوصاً من أرشيف "الخطوط الجوية الفرنسية" من أكتوبر 1928. وفي هذه النصوص قرأت سانت أكزوبري آخر. لا شاعرية. هنا تختفي شاعريته ويواجهني حضور لسانت أكزوبري غير معروف بالنسبة لي قبلها. أكزوبري العنصري، الذي لا يخفي رأيه، كيف "أن من غير المفيد" جلب الموريتانيين "مؤقتاً لفهم وجهة نظر إنسانية" لأنهم "يملكون صفات خاطئة أصلاً ولصوصية ثابتة" والتعامل الوحيد الصحيح معهم، هو مراقبتهم عن طريق "الطائرات"، "راكبي الجمال" و"العقوبات الاقتصادية". حتى إنه يدخل في خلاف مع إسبانيا التي سعت في حينه إلى سياسة سلام مع سكان وادي الذهب (الصحراء الغربية اليوم). إنه لا يفهم لماذا إسبانيا "تريد الظهور هناك كجارة وليس كسيد"، لأن "قبيلة يتم إخضاعها بسلام في موريتانيا، يمكن أن تتحول في وادي الذهب إلى قبيلة متعصبة ومحاربة، إذا كانت طامعة هناك بحملات سرقة". عن طمع القوة الاستعمارية فرنسا وحملات سرقتها لا حديث منه بالمقابل، كما لو كان وجود فرنسا هناك وفي أماكن أخرى في أفريقيا أمراً مفروغاً منه، طبيعياً.العمود الذي أردته للصحيفة اليومية الألمانية "تاتغيستزايتونغ، الليبرالية اليسارية،"دي تاتز" كما تُسمى تحبباً،

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

حياتي وموت علي طالب

حياتي وموت علي طالب

غادة العاملي في لحظة تزامنت فيها الحياة مع الموت استعدت ذكريات عشر سنوات ،أو أكثر .. أختصرها الآن في ذاكرتي بالأشهر الثلاثة الأخيرة. حينما اتفقنا أناقرر هو أن يسافر ملبيا الدعوة التي انتظرها لأكثر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram