شاكر لعيبيصعود الحركات الدينية إلى السلطة في أكثر من بلد عربي واحد، يطرح بإلحاح، مشكلة الثقافة التي تحسب نفسها حرّة وحديثة، وتجاوزت المئة عام من عمرها، لكنه يعاود تذكيرنا بالأدوار المأمولة المنوطة بالمثقفين.
لا نستطيع أن نضع بالحسبان فقط هذا الصعود، ولا نسيان أن مصطلح "المثقف العربيّ" فضفاض، ولعله يريد الإشارة إلى نمط من المثقف الرائج في الميديا، وسنجارى العُرْف بذلك. لا يستطيع المرء الاقتناع كذلك بوجود تيّار من المثقفين الهامشيين، عن حقٍّ ورغبةٍ وقناعةٍ راسخة، فقد أثبتوا، كل مرة، أنهم في قلب الإحداث وأبعد ما يكون عن خيار "الهامشية" العميق. لنقل إن نمطاً سائداً من "المثقف العربي" كان وما زال يشتغل لصالح رأس المال العربيّ. عندما كان رأس المال هذا نامياً ضعيفاً، كان "المثقف العربي" يتكلم بصوتٍ عال وجرأة، وعندما حدثت الطفرة البترودولارية في السبعينيات من القرن الماضي خفت صوته رويداً رويداً، بل صار مبحوحاً في حالات عدة. إنه لا يستطيع، موضوعياً، نقد ومساجلة من يدفع له لقمة عيشه. وعندما يغدو واقع الحال هذا معروفاً ومُدْرَكاً لقطاعاتٍ عريضة من المعنيين، يلعب البعض اللعبة عن طيب خاطر، بصفته نوعاً من "كسَبَة ثقافية" مدفوعة الأجر من أجل الانخراط بالحروب الدعائية والسياسية والأيديولوجية. في هذا السياق نرى أن الظاهرة تشكل"فلكلوراً" ذا تأريخ عريق، إذ نادراً ما خرج الشاعر العربيّ التقليديّ عن طاعة ممدوحيه الذين أسبغوا عليه نِعَمِهم: فضةً وذهباً، عملة الزمن الآفل الصعبة. وإذا ما سامَحَنا البعض، وأخذنا على محمل أقل حدة، فإن العديد من العاملين في الفضائيات والصحافة العربية، ومن بينهم أسماء مهمة نقدرّها، يشكلون، بكل وضوح، قطاعاً صريحاً من "الكسبة" المزوّدين بمنطق ذكيّ لا يتهيأ لكل شخص، متخلّين عن صرامة الإيطيقيا ومواقف "المثقف". نحن هنا أمام نمط يصمت بريبة عما لا يؤمن به، في السياسة والثقافة وغيرهما، أو أنه "يمجمج ولا يُصرّح" كما يقول أسلافنا، ليصير عديم الاتساق إلى حد بعيد، ويدعونا ضمنياً إلى عدم الاتساق معه.مع صعود الحركات الدينية إلى السلطة اليوم، يتمنى المرء أن يكون "المثقف العربي" متسقاً مع البداهات: أنْ لا يرفض الشرط الديمقراطيّ والإنسانيّ الذي دفع مثلاً بصعود هذه الحركات إلى سدة الحكم. فهذا الرفض سيجعله يبدو معادياً للديمقراطية، مفضّلاً فحسب تلك الديمقراطية التي لا خصوم فيها أو لا صعودَ للخصوم، عبر الانتخاب، إلى مراكز القرار. وهنا غالباً ما نراه يتشبث، بضرورة مشاركة الجميع بالسلطة وعدم استفراد المنتخَبِين بها. مفارَقة عايشناها في تونس، واليوم نراقبها في مصر، وبها يصير حتى مثقف المجتمع المدنيّ (الذي نفضّله وندافع عنه) هامشاً فعلياً دون إرادته، لأنه يهجر شرط السجال الصعب مع هذه الحركات لصالح إلغائها، ويرفض مبدأ الاختلاف الجوهريّ معها، لصالح التنكّر لوجودها، أي وجود الملايين من مواطنيه الذين جاءوا بها والذين يصيرون في وعيه مصدر إزعاج، بل إقلاق شامل لأيّ منظومة ثقافية تؤمن بخيارات الشعب نظرياً وترفضها عملياً. السجال والاختلاف فكرتان طالما دافع عنهما "المثقف العربي" ويا ليته يصرّ عليهما، مهما كان حضور الحركات الدينيّة الحالي قوةً وطغياناً، وطالما تمسّكت هذه الحركات نفسها، بالقانون والدستور ولم تتعامل مع قوى معادية للبلاد والعباد.أحسب أن شطراً فاعلاً، حداثياً وديمقراطياً، من مثقفي العراق يقوم اللحظة بسجال صعب كهذا، دون الصدمة من الوجود العريض لهذه الحركات، وبمعرفة عميقة بالخيارات السياسية- الدينية عند شريحة كبيرة من العراقيين، مختلِفاً معها ومُقلّباً أبعادها، دون "شيطنتها" أو رميها بما ليس فيها، وقبل ذلك كله ليس من أجل العمل لصالح سياسات الميديا العربية الآنية، أو خدمة الأجندات العالمية سريعة التغيّر.
تلويحة المدى: عن أكذوبة المثقف الهامشيّ
نشر في: 17 أغسطس, 2012: 05:28 م