احمد المهنا بين "المتأخرين" وبين "المتقدمين" في المعمورة فاصل زمني يقرب من قرنين في النظرة الى مكيافلِّي (1469 - 1527). فمنذ القرن الثامن عشر شرعت سمعة الرجل في التنظف مما علق بها من أدران الى أن استعادت صورتها المشرِّفة لدى "المتقدمين". بينما ظلت سمعته سيئة بيننا الى يومك.
وكان المؤرخ العراقي المرموق، الدكتور كمال مظهر أحمد، قد كلف نفسه مهمة فريدة من نوعها في الفكر العربي، وهي "اعادة الإعتبار" الى مفكر عصر النهضة، في كتاب وضعه بعنوان (مكيافلي والمكيافلية)، صدر عن منشورات دائرة الشوؤن الثقافية في بغداد عام 1984. وعندي مع هذا الكتاب قصة تعبر عن اهتمامي به من ناحية، وعن "خرفي" المبكر من ناحية أخرى. وقد ظهر لي ان الناحيتين متلازمتان فيَّ أمس واليوم.فأما عن الأمس فإنني بعد عودتي الى العراق عام 2003 اهتممت برؤية شخصين أحدهما الدكتور كمال مظهر، لأن متابعاتي لـ "الداخل" من "الخارج" أيام عراق صدام، دلتني على مقدار تحرره وتنوره وشجاعته النادرة في التعبير عن أفكاره في بلد عرف بأنه "جمهورية الخوف". والتقيت الدكتور كمال بالفعل في منزله ببغداد، و دارت أحاديث كثيرة كان احدها عن كتاب حول مكيافلي قرأته منتصف الثمانينيات في قبرص، وكتبت عنه، وقد نسيت مؤلفه. فذكرني خلال اللقاء بأنه هو المؤلف!واليوم وأنا أستذكر المفكر الايطالي، ضغطت على العظيم "غوغل"، فوجدت فصلين منشورين من كتاب الدكتور كمال، في صفحة كتب بجريدة (القدس العربي). ولما دققت في تقديم الجريدة للكتاب تذكرت أنني، ما غيري، كنت قد نشرتهما يوم كنت محررا لتلك الصفحة في الجريدة. وكان هذا "خرفي" الثاني حول نفس الكتاب! ولكن رغم تمكن هذه الآفة مني، فان كتاب (الأمير)، وكتاب الدكتور كمال عن صاحب الأمير، وفصلا عنه ايضا في سِفر مدهش عنوانه (الغرب والعالم) للمؤرخ الأميركي كافين رايلي، بقيت تحت الضوء في ذاكرتي. والواقع ان كل من يهتم بالسياسة اهتماما يتصف بنوع من الجدية، لابد من أن يقيم في نفسه وزنا كبيرا لـ "نيكولو دي بيرناردو مكيافلي". ذلك أنه بالنسبة لعلم السياسة كغاليلو بالنسبة لعلوم الطبيعة.ان العلم والثقافة والسياسة كانت كلها دينا ولاهوتا في أوربا القرون الوسطى. وكانت وظيفة العلوم الطبيعية في القرون الوسطى هي "فك معنى الرموز المادية التي يستخدمها الله ليتواصل مع الانسان، فالنملة، مثلا، هي رسالة الله للكسالى" وهكذا. في بداية عصر النهضة تغير معنى العلم الى "فهم العقل الالهي من خلال اكتشاف كيفية عمل مخلوقاته". مع غاليلو وخلفائه انفصل العلم عن الدين لأن وظيفته تحددت بفهم الطبيعة. هنا تعلمن العلم. وهذه العلمنة لا تنسب الى غاليلو وانما الى مسيرة كان هو أعظم روادها.وكما كان العلم دينا كانت السياسة كذلك. فقد كانت تفهم على انها ادارة الله للبشر من خلال وكلائه المقدسين وهم الأباطرة والملوك والأمراء. مكيافلي قال ان هذه الفكرة خيال، لأنه نظر الى السياسة بالعين المجردة، فوجد أن الحكام رجال يمارسون السلطة تبعا لعقولهم وأهوائهم، ووفق قواعد وإجراءات معينة، قابلة للملاحظة والحصر والتحليل، وبالتالي لـ "فهم حقائق السياسة": وبهذا تحددت وظيفة "علم السياسة" الذي ولد على يد مكيافلي. وللحديث صلة.
أحاديث شفوية:غاليلو علم السياسة
نشر في: 24 أغسطس, 2012: 10:06 م