علاء البغداديمنذ قرابة التسعة آلاف سنة ظهرت الأشكال الأولى للدولة في تأريخ التجربة الإنسانيَّة، وقد تحقَّقت بعض النجاحات النسبيَّة على الرغم من بدائيَّة شكل الدولة وبساطتها آنذاك وكونها حاجة مُلحاحة للحدِّ من صراع الإرادات وتقاطعها وأهميَّة إدارة الشؤون العامَّة وتدبيرها لذلك المجتمع البدائيّ.
ومن الطبيعيّ جدَّاً أن تعاني تلك الدولة البدائيَّة مظاهر الفساد والاستبداد، كما أشارت بذلك الكثير من الدراسات الأنثروبولوجيَّة. إلاّ أنَّ من غير الطبيعيّ وغير المقبول هو أن تستمر تلك المظاهر السيئة حتى يوم الناس هذا، ولم نجد حتى الآن الدولة التي لم تُلازمها وتستفحل فيها تلك المظاهر، لاسيَّما في بلدٍ اسمه العراق.إنَّ مظاهر الفساد والاستبداد في العراق هي من صنوٍ آخر ليس لها مثيل في غيره من بلدان العالم، فعادةً ما تكون تلك المظاهر مرتكزة في شخصٍ واحدٍ أو جهةٍ معيَّنة، مما يفسح المجال لتشخيصها أو العمل على معالجتها، أمَّا عندنا فهي مستشرية في أغلب مؤسسات الدولة ورجالاتها وبشكلٍّ عشوائيٍّ غريب، وهذا ما يجعل الأمر غاية في الالتباس، لما تمتلكه الدولة بمؤسساتها (الفاسدة) من أساليبٍ للتلاعب والاستهتار بوعي الفرد وتسطيحه، وبالتالي إبعاده عن ممارسة نقده واستهجانه تلك المظاهر والمطالبة بتوفير حقوقه المشروعة كمواطنٍ له الحقَّ في العيش الكريم والحياة المحترمة.وليس غريباً ولا نادراً أن تعاني الدولة – أيَّة دولة – من المُفسدين والمستبدِّين، لكن الغريب عندنا في العراق، هو أن هناك شريحة واسعة من الناس يقفون في موقع الصدارة للدفاع عن أولئك المُفسدين والمستبدِّين (كما سيفعلون عند قراءة كلماتي هذه) من دون أن يرتبطوا معهم بأيَّة روابط، إلاّ أنَّهم يستقتلون بالدفاع عنهم حتى وكأنَّهم يُشاركونهم المنفعة، بينما هم أكثر المتضرِّرين من تلك الممارسات الفاسدة والمستبدَّة.وليس غريباً أيضاً أن ينتفع الفاسدون والمستبدِّون من ممارساتهم سواءً على المستوى الشخصيّ أو الحزبيّ أو القَبَليّ، بل هذا هو غاية ما يستدعي الفرد لهذا النزوع المقيت والتهافت في السلوك، إلاّ أنَّنا في العراق قد لا نجد أيَّة منفعة في الكثير من الأحيان لمن يُمارس تلك الأفعال، سوى خراب البلاد والعِباد، وقد تكون هذه هي غايتهم المنشودة!كما أسلفت أنَّ الفساد في العراق هو من صنوٍ خاص، فهو كثيراً ما يكون عشوائيّاً، والشواهد على ذلك أكثر من أن تُذكر، إلاّ أنَّ الذي أثار حفيظتي هو الإعلان عن إنجاز مسجدٍ كبيرٍ داخل مبنى جامعة الكوفة بمواصفاتٍ خاصَّةٍ، حيث ثمَّ بناؤه وفق طرازٍ معماريٍّ حديث ويتسع إلى أكثر من ألف مصلِّ ويحتوي أيضاً على ساعةٍ كبيرةٍ شيِّدت بارتفاع يساعد على رؤيتها من جميع مناطق محافظة النجف الأشرف، بالإضافة إلى بعض الملحقات والمرفقات!!لا أُريد هنا أن أتحدَّث عن الميزانيَّة الهائلة التي خُصِّصت (وهدرت) لبناء هذا المسجد، لأنَّ الأرقام كارثيَّة ولا أُحبِّذ حتى مجرَّد ذكرها ويُمكن الاطلاع عليها من مصادر أخرى (ناهيك عن حصَّة الفساد الماليّ فيها)، لكني أتساءل عن الضرورة التي اضطرَّت وزارة التعليم العالي والبحث العلميّ ورئاسة جامعة الكوفة على اتخاذ مثل هذه الخطوة؟ وأتمنى هنا أن لا يتمُّ التعامل مع هذا السؤال بسطحيَّة فجَّة.إنَّ الهدف الرئيسيّ والوحيد من بناء المساجد وعِمارتها هو أداء الصَّلاة اليوميَّة لاستحصال مرضاة الله ولزوم طاعته ولا شيء غير ذلك، وإذا ما حسبنا الفترة التي يقضيها الطالب الجامعي في دوامه اليوميّ لاسيَّما في النجف الأشرف، نرى بأنَّها لا تتزامن مع وقت الصَّلاة إلاّ لفترةٍ واحدةٍ على الأكثر، وهي فترة الظهيرة (صَّلاة الظهر) بالنسبة إلى الدَّوام الصَّباحيّ وفترة المغرب (صَّلاة المغرب) بالنسبة إلى الدَّوام المسائيّ (وهذا نادر الحصول)، وإذا ما نظرنا إلى أعداد الطلاب في جامعة الكوفة الذين يسكنون محافظة النجف الأشرف والذين عادَّةً ما يُفضِّلون الصَّلاة في منازلهم، نجد بأنَّ الضرورة منتفية تماماً لبناء المسجد بهذه المواصفات داخل الجامعة.نعم، لا بأس من أداة الصَّلاة داخل الجامعة والقبول بممارسة بعض الطقوس الدِّينيَّة التي لا تتعارض مع خصوصيَّة الحرم الجامعيّ، ولابأس – أيضاً - من بناء مُصلَّى صغير داخل الجامعة لأداء الصَّلاة فيه من قبل الطلبة والأساتذة، لكن أن يتمُّ بناء هذا المسجد الكبير داخل بناية الجامعة، فهذا مما لا توجد له أيَّة مسوِّغات. فإذا كان فكرة بناء المسجد قائمة على جعله مسجداً كبيراً للمدينة ومَعْلَماً معماريّاً من مَعالِمها، فهذا أيضاً يفتقر لمبرِّراته، لأنَّ محافظة النجف غنيَّة بوجود المساجد الكبيرة والتاريخيَّة بدءاً من مسجد الكوفة ومسجد السهلة وليس انتهاءً بمسجد الحنّانة وعشرات المساجد غيره، وحتى مع قبول هذا الفرض غير المنطقيّ وغير العقلائيّ، فلا معنى لأن تكون وزارة التعليم العالي هي الجهة التي تتكفَّل بالبناء، فيُمكن أن تُناط هذه المهمَّة بالمحافظة مباشرة أو بدائرة الوقف الشيعيّ بعيداً عن إقحام الجامعة بهذا المشروع.كما أسلفت، إنَّ ممارسة بعض الطقوس العباديَّة، فضلاً عن أداء الصَّلاة داخل الجامعة لاضير ولا خِشية منها، لكن الخِشية من
أسلمة الفساد وتوقيره! .. إستراتيجيَّة هدم الدولة
نشر في: 26 أغسطس, 2012: 07:17 م