أحمد عبد الحسينتوفي نيل أرمسترونغ، أول كائن حيّ مشى على سطح القمر، قائل الجملة الخالدة "هذه خطوة صغيرة لإنسان لكنها خطوة كبيرة للإنسانية". انطفأت شعلته عن اثنين وثمانين عاماً. رثاه كثيرون في مقدمتهم الرئيس الأميركي أوباما ومنافسة رومني، لكن كلمة رئيس الوزراء الفرنسي ايرولت كانت الأبلغ،
فقد عزّى فيه "أجيالاً من المخترعين والعلماء والفنانين والشعراء"، لأن وفاته "خسارة لكل من يهوى الجمال".نعرف أن العلم رود مجاهيل ومحاولة لإنقاص "عالم الغيب" وتوسيع "عالم الشهادة"، ازدياد المعلوم على حساب المجهول، وفي ذلك قدر هائل من الجمال والشاعرية، لكن علوم الفضاء بالذات أقرب إلى الشعر من سواها، التأمل في الكون يقذفك في المطلق، وكم من كلام علميّ عن الثقوب السود مثلاً ينتهي لأن يصبح شعراً محضاً لا بسبب غموضه بل بسبب مقدار الدهشة التي تجعل من المحدود قادراً على استيعاب وفهم المطلق. ومن قرأ "موجز تأريخ الزمن" لستيفن هوكنغ سيخرج بنتيجة أن اللغة العلمية أمام هذه الغرابة لا بدّ أن تنحلّ أخيراً إلى شعر.في فيلم contact للمخرج روبرت زيميكس والمممثلة جودي فوستر مشهد يذكر بانقطاع اللغة عن قول شيء أمام الكون، فحين تصل "فوستر" إلى مجرة فيغا وترى إلى الحفلة الكونية من الألوان والسحر تهمس بدهشة فيها بهجة وبكاء: هذا شعر .. كان عليهم أن يرسلوا شاعراً!لم يرسل العالم شاعراً حتى الآن، أرسل أرمسترونغ الذي كان ـ بتواضعه وزهده في الشهرة ـ يمتلك روح شاعر حقيقيّ، قبل سنوات عرف أن توقيعه يباع بآلاف الدولارات، فقرر ألا يوقع شيئاً، وكان ينأى عن كاميرات التلفزيون متفرغاً للقراءة وشؤونه الخاصة.هبط على القمر في عام 1969 ، وللآن لا يصدق كثير من الناس في العالم هذه القصة، وما زاد في شكوكهم تصريح لوزير الدفاع الأسبق رامسفيلد قال فيه إن الفيلم القصير لأرمسترونغ وهو يمشي على القمر تم تصويره حقيقة على الأرض وبالضبط في القناة الخامسة بلندن.بعض المتزمتين من كل الملل والطوائف يسوؤهم أن يغدو الكون وهو خزانة الغيب الواسعة، مادة للمعرفة ولزيادة المعلوم وتكثير عالم الشهادة، وقد قرأت قبل فترة قصيرة كتاباً لشيخ إسلاميّ فائق الشهرة كتاباً في إثبات أن الأرض مسطحة، وفيه أن لا دليل حسياً أو عقلياً على أن أحداً من الأرض وصل القمر.ميت رومني قال عن أرمسترونغ إن "القمر يبكي اليوم ابنه القادم من الأرض"، وتذكر أوباما انه كان ابن ثماني سنوات حين داس أرمسترونغ بحذائه على وجه محبوب الشعراء والعشاق الساهرين.أرمسترونغ فتح في جدار الغيب ثقباً يطل منه على المعلوم لكنه صنع لنا شعراً كثيراً لشعراء باتوا يعرفون أن القمر صخور وتراب عليه آثار رجلٍ مات أمس.
قرطاس: أرمسترونغ
نشر في: 26 أغسطس, 2012: 07:20 م