سرمد الطائي المولدة الأهلية تقوم بتبريد صالة المنزل لكنني ابحث في البصرة عن رائحة النخيل التي كانت في الماضي تحيط كل شيء. كنت متمسكا بإمضاء ليلتي على سطح الدار. مر زمن طويل منذ نجحت آخر مرة في النوم على سطح المنزل وتقليد عادات ايام زمان، يوم لم يكن لدى اجدادنا كهرباء ولا سبالت، لكنهم امتلكوا طبيعة اكثر رحمة.
يقول الناس هنا ان نهاية شهر آب تتميز بهواء "جلاب" وبالفعل فإن كل شيء على سطح دارنا يعد بنوم هادئ. تستلقي على الفراش فتقابلك نجوم الرب وافلاكه. متى كانت اخر مرة رأيتم فيها صفحة سماء صافية؟ بيد انه لا اثر لرائحة النخيل. في المنطقة ذاتها وقبل 30 عاما كنا نستيقظ على صوت ألف نوع من الطيور التي أتذكر أسماء بعضها: المهلهل والطسلة والهدهد والنوارس، تتنقل من نخلة الى اخرى بألوان وأصوات شتى، وتمنحك ما يستحق ان يكون بداية ليوم بلا كسل. اما اليوم فحتى صوت الحمام اختفى! البساتين تتآكل ويقوم الناس بتجريفها للحصول على مئتي متر يشيدون فوقها منازلهم. غياب التخطيط جعلنا نترك البراري الشاسعة ونخرب ما تبقى من البساتين لبناء الوحدات السكنية. الحروب وصدام حسين جعلا العراق يخسر ملايين النخيل، والجفاف وجور قواعد السوق حولت مالكي الأرض إلى مفلسين يبيعون البستان للخراب، والحكومة تتفرج كأي عاجز على رصيف العولمة.في مركز المدينة شاهدت أكبر كمية شعارات في حياتي. المحافظ يدعو للنظافة. رجل الدين يدعو للنزاهة. مدير بلدية يعد بمنجزات هائلة. أما إحدى المؤسسات فقد استهلكت كل الحكم ولم يبق لديها شيء مبهر فكتبت: استثمروا وقت الفراغ في القراءة. إنني لا افتري، فتشوا عن اللافتة قرب أطلال المتحف الطبيعي في البصرة.إلا ان كل هذه الحكم المبثوثة على مدى البصرة، محطمة الرقم القياسي في المنطقة على مستوى كمية الثرثرة الباروكية المفتعلة وغير المحترفة، لم تساعد طبيبا معروفا في أبي الخصيب بتجهيز مستشفى المدينة بجهاز ناظور. يقول: قيمته مائة مليون دينار ويخدم 400 ألف نسمة، وكل بائعي الكلام يعجزون عن توفيره.اللافتات العملاقة بلا نهاية. هنا بوستر يظهر نوري المالكي وهو يوقع إعدام صدام ويتوعد الفاسدين بالعقاب. والى جواره بالضبط بوستر للمرشد الإيراني علي خامنئي وهو يتوعد بتحرير القدس في ساحة سعد.البحر لا يزال هنا، وسفينة كبيرة تعمل جولتين داخل الشط للمحتفلين بالعيد، والشباب المدفوعون بالحماس يستقلون قوارب سباق حديثة ويطيرون على الماء بتهوّر في مشهد يحاكي لعبة الموت والمغامرة. اما قرب بيت قاضي القضاة القديم في البصرة فتجد في "السماكة" كل ثمار البحر، ويفتخر البائع وهو يعلق الروبيان إلى جانب سمكة قرش صغيرة، بأنه يرسل إلى عراقيي الاردن اسماكا نادرة ضخمة سعر الواحدة مليون دينار!اما البحارة فساخطون كالعادة. لقد خسروا تقريبا ميناء المعقل كما يقولون، فالجسر الجديد لا تتسع فتحته الملاحية سوى للسفن المتوسطة بغاطس مقداره اربعة امتار، واحلام ميناء الفاو الكبير والعملاق لا تزال معلقة في الهواء ولا احد يأخذ أحلام حنا الشيخ على محمل الجد، وهناك 4 آلاف بحار عاطل كما يبدو والبلاد تخسر كل سنة مليون فرصة وفرصة بعد 10 أعوام على نحر كبش الدكتاتورية.أما اكثر الحكايات إثارة هنا فهي عن اغرب "حكماء" البصرة. ولو لم يكن ناقل الحكاية والدي لما صدقتها. الرجل يملك بستانا قرب حدودنا مع إيران ويضيق ذرعا بالشركات المكلفة بإزالة 20 مليون لغم في العراق. عملهم بطيء والأطفال يموتون حين تدوس اقدامهم على موت مزروع قرب نخلة مقطوعة الرأس. يأخذه هوسه الى حلم بعيد بمدينة خالية من الموت، فيستخدم خبرته البدائية بإزالة الألغام بمفرده، ويتفاخر بأنه يزيل كل أسبوع 20 قنبلة من الارض، وهو ضعف منجز الشركات والمليارات. إنها الطريقة الوحيدة التي وجدها لمواجهة اليأس. كل التحذيرات من خطورة هوايته هذه لم تكبح جماحه، وقبل شهرين زلت قدمه فوطأ لغما فانفجر ومزقه إربا! صنع حكمة فريدة ورحل ورحل معه حلم تطهير البساتين من موت مصنوع في الماضي يلاحق أجيال المستقبل. إن في بلادنا حكايات لا يجرؤ على مواجهتها كل ناشري الحكم المضحكة من ساحة سعد حتى بوابة القصور الرئاسية.
عالم آخر:الحكومة وفن "الحكم المضحكة"
نشر في: 26 أغسطس, 2012: 09:08 م