TOP

جريدة المدى > مقالات واعمدة ارشيف > عالم آخر: التيه في جنة عدن

عالم آخر: التيه في جنة عدن

نشر في: 27 أغسطس, 2012: 08:37 م

 سرمد الطائيالحديد الذي صنعت منه هذه الرافعة قبل عقود لا يزال يلتهب كل صيف ويحرق كل أجزاء الجسد الظاهرة حين يقوم المرء "بتسلقه". الا ان وخزات السلالم الفولاذية تتلاشى حين يتاح لك ان تشاهد من ارتفاع شاهق، صورة عمرها ٩٠ عاما عن عراق كان في قلب التمدن العالمي.
كنا مجموعة صحفيين ندير البصر حول بقايا أول ميناء حديث في البصرة من علو شاهق، ونقول لبعضنا ان المشهد يفسر جزءا من حكاية الانهيار السريع للعراق. كما ان بقاء هذا المكان مهملا يحكي الجزء الآخر من العجز عن فعل شيء كبير.الرؤية من أعلى الرافعة العتيقة تذهلك بالمخطط الذي أنشأه الانجليز قبل قرن لميناء بمحاذاة محطة القطار ملتصق في الوقت نفسه بالمطار. المنشآت الثلاث تخترق بعضها وتنشئ شبكة تواصل عملاقة بين العراق والعالم. الشبكة هذه مدخل منطقي لدولة عصرية حظينا به مطلع القرن العشرين  وخسرناه بألم قبل ان ينتهي ذلك القرن.الحديث يدور مع البحارة عن حلم جديد بإعادة تأهيل كل شيء وهناك اجانب جاؤوا لتطوير بعض الأرصفة وينهمكون في رسم أحلام عن "بصرة هي مستقبل العراق". اما البحار العراقي فيحكي لك بألم عن سفينة "ابن خلدون" التي قصفوها بستة عشر صاروخا ولم تغرق لكنها توقفت عن عبور الاطلسي الى الابد.شط العرب هذا بمثابة سلك انترنت ربط البلاد بالعالم المتقدم فنقل اليها طريقة الحياة الحديثة وأنشأ مدينة المعقل على الحافة الشمالية للبصرة، ومنحها نموذجا حديثا تفرد يومذاك بين مدن المنطقة. مئة الف انسان عاشوا في حي كبير وكان لديهم ٨ سينمات صيفية ومثلها شتوية.  احيانا كانوا يتفرجون على الافلام داخل السيارات ويكتفون بركنها قرب عارضة السينما.تتواصل حكاياتهم عن مدينة خرجت من خارطة التاريخ وبقيت كحلم بطموح ولادة جديدة. هنا غنى فريد الأطرش وعبد الحليم حافظ، وفي البورت كلوب تعرضت فاتن حمامة الى "تحرش" من بعض العمال كما تقول الشائعة. سعاد حسني حضرت العرض الاول لبعض افلامها، والمكان لن يتسع لزائريه حين يصدح يوسف عمر او وحيدة خليل، في زحام مشابه سجله الشهود عند باب مكتبة المعقل التي تقتني كتبا حتى باللغات الاسيوية فسكان المدينة ينحدرون من شتى القارات. وهنا ايضا مساكن اهل الصين "تشاينا كامب" وماركيل والخواجة سرا حيث اقام القناصل قبل القرن العشرين. وباقي الحكاية تكفل بها على نحو ساحر، لؤي حمزة عباس في "مدينة الصور".البحارة الأجانب كانوا يرددون عند دخول الشط انهم سيصلون الى "جنة عدن" بعد اسابيع من التجوال بين موانئ صحراوية لا يغني فيها احد. اما اليوم فتأتي بضع سفن دون ان يجرؤ بحار على النزول الى الميناء. العالم لايزال يأتي لكنه لا يترجل، ولا تلمحه سوى في قاعات الشيراتون. والجميع يحتفظون بحلم الولادة الجديدة لميناء مات بموته كل شيء تقريبا. الشباب يرتدون موضات جديدة والسيدات عاودن قيادة سياراتهن بيد ان حجم الخراب محبط.المشاكل مع حكومة بغداد وروتين المركز القاتل يجعلك تنصت باهتمام  لجدل الفيدرالية الذي لا يهدأ رغم الحشد والتعبئة ضد نموذج ادارة اقليم كردستان. يقال لك ان الجميع تقريبا معجبون بالتجربة الكردية التي افلتت من بغداد المصابة بدوارها المحزن، لكنهم يحاولون "مجاملة" فريق رئيس الحكومة بانتقاد مسعود بارزاني. هنا بالضبط تتذكر تأويلا نقله رشيد الخيون عن معنى البصرة او "بصرايا" وكيف انه يعني بالضبط "النهر التائه".التعامل مع الاهالي والمسؤولين هنا يمتاز بلين عريكة ويسر، والامر يجعلني افكر بأن العنف الذي لا ينتهي قد أفسد أمزجتنا في بغداد، فشرطة العشار لا يطاردون الكاميرات كما يحلو للجنود في شارع الرشيد. يمكنك قرب مرقد الوالي افراسياب ان تصور كل شيء. ادوات البحر المعروضة في سوق الهنود، او النقوش العبرانية على البيوت التراثية. يمكنك ان تلتقط الخراب والاحلام الكبيرة على حد سواء. اعود قبيل الفجر الى التنومة فأجد الجسر مقطوعا فالسفن تنهمك في عبورها الابدي من البحر واليه. اقف على سفينة غارقة وافتح كاميرا الموبايل كي تشاهد معي بعض القطع البحرية المتحركة. وانا والكاميرا لا نكاد نرى من شدة النعاس واختلاط بروجكترات الجسر بأضواء السفن وابواقها الساحرة. لكنني أتمنى أن أجيء بكل ساسة العراق كي يحظوا بفرجة مماثلة قبيل الفجر، لعلهم يفهمون الى اي حد تأخرنا عن اعادة ربط انفسنا بالمستقبل عبر هذه القناة الملاحية.كلما تسمرت أمام باخرة في الشط صرخ في رأسي صوت يردد بأن علينا ان لا نيأس من "نهرنا التائه" في بحار الدموع والدم، ففي النهاية ستجد سفينة ما، الطريق الى "جنة عدن".

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

حياتي وموت علي طالب

حياتي وموت علي طالب

غادة العاملي في لحظة تزامنت فيها الحياة مع الموت استعدت ذكريات عشر سنوات ،أو أكثر .. أختصرها الآن في ذاكرتي بالأشهر الثلاثة الأخيرة. حينما اتفقنا أناقرر هو أن يسافر ملبيا الدعوة التي انتظرها لأكثر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram