إحسان شمران الياسرينحنُ كأمة لم نعتد التعامل مع الاختصاصيين ولم نألف الالتزام بالوظيفة. وكل واحد منا فيه الطبيب والمهندس وسائق التكسي والفلاح ورجل الدين. ولا نقبل أن نسكت عندما يتحدث المتخصّص لنستمع، بل نقاطعه ألف مرة لنؤيد أن المهندس الذي فينا مرّ بتجربة المتحدث (المهندس)، ولنسوق مثلاً عن تجربة الطبيب فينا عندما يتحدث الطبيب،
وعندما يتحدث رجل الدين، يقفز مناّ ألف رجل دين فنترك الرجل يتحدث وننشغل مع من يجلس بجانبنا نتحدث عن فضائل ومكارم الأخلاق، والمنزلق الذي وصل اليه المجتمع، وعن غياب الضمير.الحال أننا لا نترك للمتخصص فرصته للعمل، ولا نتركه وشأنه. بل صارت دولتنا تتعمد العزوف عن استخدام المتخصص الى غير المتخصص. والتجارب والأمثلة لا حصر لها ولا موجب للتكرار.ما يشغلني في هذهِ الأسطر بعض الوظائف التي لا تصلح لسواها، ثم نجد أهلها يذهبون لوظائف وأدوار أخرى فتفسد الوظيفة الأصلية ولا تؤدى الوظيفة الجديدة بكفاءة. وأنا بهذهِ الكلمات أعي الفوارق بين الإخلاص والحماس وبين المقدرة. فلقد تمنيت بطفولتي وشبابي وإلى الآن أن أقود طائرة وأصبح طياراً، غير ان تلك وظيفة بالغة الصعوبة لشخص مثلي يفتقر الى مقومات اللياقة والتدريب والكفاءة الصحية.. فهل يجوز لي أن أكون مسؤولاً عن سرب من طائرات القوة الجوية أو رئيسا لورشة صيانة طائرات الخطوط الجوية.وحتى وأنا أتحدث بهذهِ الأسطر أتذكر عشرات المرات التي تدخلت فيها باختصاصات آخرين واقترحت أشياء كان من المفيد لو انني لم اقترحها، بل أفسدت حماس عشرات الأشخاص وأنا (أتطفل) على اختصاصهم ووظائفهم بدواعي الحرص والمشاركة وإسداء النصيحة. والحق ان بعضهم كان رؤوفاً بي، وأكثر مني كياسة إذ استمع لآرائي و (توجيهاتي)، غير أن بعضهم امتثل اليها وبعضهم اعرض عنها.وفي حياتنا، صدمتني مرحلة ما بعد عام 2003 عندما وجدتُ بعض الذين يشتغلون في إرشاد الناس ووعظهم من رجال الدين وهم يمتهنون وظائف إدارية وسياسية.. فلقد جلستُ مع رجل دين ثم اكتشفتُ انه (مدير ناحية) وآخر رئيساً لمجلس محافظة وثالث عضواً في البرلمان.. وأنا أُنكرُ على هؤلاء تنازلهم عن وظيفتهم الأساسية، المهمة جداً، والتفرغ لوظائف قد تجعل سلوكهم يتوافق مع متطلبات تلك الوظائف. فأنا عندما أكون مديراً للناحية أو محافظاً أو عضواً في السلطة التشريعية ربما تضطرني عادات العمل وضرورات تسيير الأمور ان أبدي ما لا أُبطن.. فأضطر لأن أقسم الأيمان، وأراوغ، وأقرّب هذا وأبعد ذاك، حتى لو كان ذلك من باب تحقيق الصالح العام.. بينما لا يفترض برجل دين أن يفعل هذا.. ودليلي على ذلك أن رجالاً من السلف الصالح لم يكن بمقدورهم المداهنة والمراوغة لتمشية أمور الدولة، ولم يضطروا للكذب أو المراوغة من أجل نجاح سلطتهم وديمومتها. بل كانوا مثل حد الموس. أنا أفهم أن العمامة التي يعتمرها الأخوان الأجلاء لها وظيفة محددة.. وهي وظيفة ينقلنا مَن يرتديها من الدنيوية ومشاكلها وإسقاطاتها ومتاهاتها الى آفاق أرحب في التبشير بآخرتنا ومقدمات وشروط الإنتقال إليها، والتزود لها.. والبحث عن (خير الزاد) اليها.. فمالي أرى بعض قادتنا الى ربوع الروح والفضائل ينافسونا في تحصيل مغانم الحياة الزائلة، ويفعلون مثل ما نفعل، فيمتدحون هذا ويذمون ذاك، ويكذّبون مثلنا للتخلص من مواقف مُحرجة، ويرتشون من البقال وعامل النظافة وصاحب المعاملة.. ويطلبون الدولارات للتوسط في تعيين هذا وترفيع ذاك ونقل تلك..سيقول لي قائلهم: انك تخلط الامور ولا تُميّز بين رجل دين حقيقي وبين شخص يرتدي العمامة للتعيّش منها والإساءة للوظيفة المقدسة.. وأقول بكل سذاجة: إن الناس لا تملك معلومات عن كل من يرتدون العمائم.. ولهذا فهي تحكم على ما تراه لا على ما لا تعرفه.
على هامش الصراحة: الاختصاص والوظائف
نشر في: 28 أغسطس, 2012: 09:09 م