TOP

جريدة المدى > مقالات واعمدة ارشيف > أحاديث شفوية:تحولات كِتاب

أحاديث شفوية:تحولات كِتاب

نشر في: 28 أغسطس, 2012: 09:48 م

 احمد المهنا كان أغرب "طلب توظيف" من نوعه في التاريخ. وسيكون من أشهر مآثر التاريخ. وكان طالب الوظيفة رجل دولة ناجحا لمدة 14 عاما في حكومة فلورنسا الجمهورية، احدى الدول الخمس التي كانت ايطاليا مقسمة بينها. عام 1512 أسقط الغزو الاسباني الجمهورية، وتسلم الحكم فيها الأمير لورنزو دي مديتشي، ابن شقيق بابا الفاتيكان يومذاك ليون العاشر.
هذا التغيير أُبعد مكيافلي، "المستشار الفلورنسي" الرفيع، عن منصبه، وسجن وعذب ثم أفرج عنه، ونفي الى مسقط رأسه في قرية سان كاسيانو المجاورة لمدينة فلورنسا. ولكنه لم يحبط. وظل هواه متقدا ومقسما بين رغبتين عارمتين، خدمة مدينته التي آثرها بالحب على نفسه، وبعث الحياة في حلم وحدة واستقلال ايطاليا المجزأة والمتقاسَمة بين النفوذين الفرنسي والاسباني. ان عدم تحقق الأولى، أي الوظيفة، فرَّغه لكتابة مؤلفات ستُعد مكسبا للبشرية. أما أعماله الفعلية والنظرية في خدمة الرغبة الثانية فستجعله "أبو الوطنية الايطالية". والفضل للبطالة في المكسبين.لم يكن معنيا بنوع الحكم او شخص الحاكم، بمقدار ما كان مهتما بقيام دولة ايطاليا. ولم يضيع وقته، فألف عام 1513 كتاب "الأمير"، الأصغر بين مؤلفاته الـ 42، وقدمه هدية الى الحاكم الجديد. وكان آملا في استخدامه "حتى ولو طلبوا مني في البداية القيام بدحرجة صخرة" كما كتب في رسالة الى صديق مقرب. لكن الحاكم لم يقلِّب الكتاب، الذي ظل مخطوطة حتى طبع عام 1531، بعد اربع سنوات من موت مؤلفه.والكتاب،عدا فصله الأخير الذي انتقل به من الروح العلمية الى الوطنية العارمة، يمكن اعتباره وصفة تقنية للنجاح السياسي. وفيه شيء لا يقبله العقل السائد. وخلاصة ذلك الشيءهي أن هناك رذائل، بعضها بمنتهى النذالة كالمجازر، قد يضطر الحاكم او السلطة لممارستها. وان مثل هذه الرذائل مشروعة بشرطين، الأول ان تكون محكومة بضرورة، والثاني أن تكون الغاية منها فاضلة. ومقياس الفضيلة الدائم عنده في أعمال السلطة هو المصالح العليا للدولة.ان الفرد يقتل فردا آخر دفاعا عن النفس. وان الصادق يضطر الى الكذب في حالات قاهرة. والمرء لا يسير الى هدفه النبيل باستقامة اذا كانت الطريق مزروعة بالألغام. والفوضى لا تنتهي والنظام لا يستعاد من دون عنف وقسوة. وازدواجية الخير والشر طبيعة او خطيئة أصلية في النفس البشرية. وبكلماته فإن "البون شاسع بين الحياة كما هي والحياة كما ينبغي أن تكون. ومن ترك ما هو كائن في سبيل ما ينبغي ان يكون لابد له أن يعلم انه لا يحافظ على نفسه، بل يوردها موارد التهلكة. ويتحتم على الأمير الذي يريد ان يحافظ على كيانه أن يعرف كيف ان لا يكون خيِّرا، وأن يكون استخدامه لهذه المعرفة وعدم استخدامه لها مناسبا لمقتضى الحال".ان هذه الكلمات ليست "مألوفة"، على الأقل، في "طلب وظيفة". فكل انسان، حاكما ومحكوما، يؤمن في قرارة نفسه أنه ملاك. ولعل الولادة المتأخرة لعلم النفس وطب النفس، في القرن التاسع عشر، جاءت نتيجة حداثة عهد الانسان بـ" التأمل الذاتي". العهد الكاشف لعواصف الشر الكامنة او الطليقة في أنفسنا. ومازال علم وطب النفس يتفاوتان في العمل أو البطالة بين الأقوام تبعا لعمالة أو بطالة "التأمل الذاتي".وعلى كل حال فان "الأمير" الذي لم ينفع مكيافلي عند الأمير، أضره عند الجمهوريين حين عادوا الى الحكم عام 1527، لأنهم كانوا قد نفروا منه بعدما ذاع صيت مخطوطة كتابه. وقبل أن يبلغه خبر رفضهم اعادة تعيينه وافته المنية. ومن "مهمل" و"ضار" في حياته، تحول "الأمير" بعد مماته الى "منبوذ" وأخيرا الى "خالد".

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

حياتي وموت علي طالب

حياتي وموت علي طالب

غادة العاملي في لحظة تزامنت فيها الحياة مع الموت استعدت ذكريات عشر سنوات ،أو أكثر .. أختصرها الآن في ذاكرتي بالأشهر الثلاثة الأخيرة. حينما اتفقنا أناقرر هو أن يسافر ملبيا الدعوة التي انتظرها لأكثر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram