علي حسينليس صحيحا أن سياسيينا كلهم عابسون وقاتمون، وان السياسة عندنا تثير الأسى والحزن، فهناك جوانب مضحكة كثيرة، بل وتفوقت في سخريتها على مسلسل عادل امام الأخير، ولمن لا يصدق عليه فقط ان يتذكر أحداث الفيلم الكوميدي الهابط "مهلة المئة يوم" والتي بدأت عروضه في صالات الحكومة بتاريخ 27/2/ 2011.
الكوميديا في هذا الفيلم لا تعد ولا تحصى، وأولها أن المواطن نفسه وهو المعني بألاحداث لا يعرف حتى هذه اللحظة متى ستنتهي الأحداث، لأن بطل الفيلم شاطر في اختراع القفشات والأحداث المثيرة وتأجيج الصراع الدرامي، ومن طرائف الفيلم هذا ايضا إصرار صناعه على انتاج، جزء ثان وثالث ورابع والى ما لانهاية مادامت الاحداث مشوقة وممتعة. ففي شباط من عام 2011 استقبل الناس خطاب رئيس الوزراء نوري المالكي الذي اعلن فيه ان الحكومة تطلب من الشعب امهالها مئة يوم، وسيصحو الناس بعد اليوم الواحد بعد المئة ليجدوا انهم يعيشون عصرهم السعيد.. المصانع تعمل بأقصى طاقتها، المشاريع الخدمية فاقت الوصف، مراكز الترفيه والثقافة أصبحت لا تعد ولا تحصى، البطالة اصبحت من الماضي. المضحك في هذه الأحداث المشوقة ان السيد المالكي أصر على تنفيذ التزاماته وخرج على العراقيين يوم 14/5/2011 ليقسم بأنه سـ " يقدم استقالته ويسقط الحكومة ويطالب بحل مجلس النواب في حال رأى أن لا فائدة من مهلة المئة يوم " لكنه ومن اجل اضفاء مزيد من الإثارة على احداث الفيلم عاد ليعلن في 6/6/2011 عن مفاجأة جديدة اطلق عليها اسم "المئة يوم الثانية" قائلا: ان هناك مدة مماثلة تكون سنداً لمهلة المئة يوم الأولى، وان الوزراء واعتباراً من يوم غد – يقصد يوم 7/6/2011- سيتحدثون تباعاً عما قدموه وعن خططهم المستقبلية." وكان الناس على موعد مع مسلسل جديد بثت حلقاته من على قناة العراقية حصريا، في تلك الحلقات التي قرر منتجوها ان تكون سباعية بدلا من ثلاثين حلقة اختصارا للتكاليف شاهدنا كيف ان السيد المالكي ملأ الشاشة بالخطب والشعارات، فالكل من وجهة نظره خاطئون ومقصرون، ولم يتورع عن اختيار أصعب الكلمات في توصيف ما يجري في بعض المحافظات، كان رئيس الوزراء ملعلعا وهو يخوض معركته الكلامية المقدسة ضد كل من تسول له نفسه الخروج في تظاهرات تندد بالإصلاح وتنادي ببناء مؤسسات الدولة على اساس الكفاءة وليس الولاء والقرابة، مشيعا في الأجواء طقسا حربيا حتى اعتقد الناس أن المعركة قادمة لا محالة.ووفق هذه الخطب الثورية استقبل الناس حديث رئيس الوزراء عن مهلة المئة يوم " المقدسة " بمنتهى الجدية والثقة، مع ازدياد حالات الترقب والتشويق لما ستسفر عنه احداث هذا الفيلم "الهابط".إلا ان في زحمة انشغال الناس في البحث عن لقمة العيش والأمان فاتهم ان يدركوا ان احداث الفيلم قد فات عليها بالتمام والكمال 550يوما، وان هذه الاحداث لم تكن سوى قفشات لطيفة، تبدو في ظاهرها جادة، لكنها في النهاية نوع من الضحك على الناس، وان القائمين عليها منفصلون عن الواقع ولهذا لم يكن غريبا ان يلجأ المالكي ومقربوه الى استخدام اساليب من المماطلة والمناورة واشغال الناس في معارك جانبية، الغرض منها الاستمرار في عرض فيلم المئة يوم الى ما لانهاية، بل ذهب الخيال ببعض المقربين الى ايهام الناس بان هلال المئة يوم لم يبزغ بعد.ست سنوات وقبلها سنوات علاوي والجعفري، والبلاد محكومة بالفشل، وبدلا من ان يسعى الساسة والمسؤولون الى اعلان مشروع كامل لتطوير بنية الدولة العراقية، نراهم مصرين على تدعيم التخلف والمحسوبية والانتهازية السياسية، وترسيخ دولة الطوائف بدلا من دولة المؤسسات.حكومات فشلت في التحول من الدكتاتورية إلى الديمقراطية، فسعت الى انتاج دكتاتوريات جديدة تقودها احزاب ومؤسسات تمعن في قهر الانسان ومع نهاية الـ550 يوما على فيلم المالكي الشهير " مهلة المئة يوم " اكتشف الناس ان الوعد الخفي الذي روج له صناع الفيلم لم يكن سوى سراب. اليوم من حق الناس ان تضحك وهي تسترجع احداث هذا الشريط الكوميدي، وان تتوجس وترتاب من كل وعود جديدة يطلقها المالكي او غيره من السياسيين، ففي ظل اصرار الجميع ان تقاد البلاد بكوادر لم تنتج سوى الفشل والفساد، تحولت مؤسسات الدولة إلى إقطاعيات تملكها الأحزاب، بعد أن أطلق السياسيون خيول النفاق والتزلف والمحسوبية على أعنتها.
العمود الثامن: من يتذكر الفيلم الهابط.. مهلة المئة يوم
نشر في: 29 أغسطس, 2012: 09:58 م