سرمد الطائي اننا نكره الطوابير ولا نمتلك خيارا سوى العطالة، ونسرف في استخدام كلمات الترحيب لكننا صرنا نكره الجغرافيا بعد ان احبطنا التواجد طويلا "خارج التاريخ"!علي ان اشهد بأن كراجات الكثير من المدن امتدت اليها يد الترميم والتنظيف وصارت اقل قذارة مما مضى. شاهدت هذا في مرآب النهضة ببغداد وفي كراج ساحة سعد بالبصرة، لكن القليل من هذه النظافة اتى على ما تبقى من تنظيم. في السابق كنت اعرف السيارة التي يتوجب ان استقلها للسفر،
rn وكان هناك طابور له قواعده يلتزم به الجميع. اما الخروقات فتأتي من سيارات لا تقف داخل الكراج ويفضل سائقها المستعجل ان يلتقط الركاب على ناصية الشارع في الخارج. اما خلال اخر سفرتين لجنوب البلاد فقد فوجئت بأن القواعد انخرقت على نحو مريع. وباختصار فإنه لا يوجد اي طابور حقيقي بل مجموعة من "قادة المركبات" كل منهم يدعي ان الدور قد وصل اليه لكي ينطلق بسيارته بلمح البصر. تصدق الاول فيتبين كذبه ثم تحاول تكذيب الثاني للحاق بالثالث، والنتيجة هي شجار رهيب بين اصحاب المركبات والمسافرين وشخص يقول انه مسؤول عن تنظيم هذا "الطابور الوهمي". انها حيرة عظمى بين قادة كثيرين من طراز رفيع.rnالمعادلة هي اننا بعد عشر سنوات من التخلص من صدام حسين، حصلنا على كراج اقل قذارة لكن بطابور وهمي يعقد حركة المسافرين. وحين تستفهم من السائق يخبرك بأن هناك عدد كبير من الموظفين الحكوميين يشرفون على حركة السيارات في الكراج، لكن بعضهم يتجنب الدخول في عراك مع السواق، والثاني يأخذ رشوة والباقون "بطالة مقنعة" لا يعملون شيئا. والا فإن تنظيم كراج متوسط الحجم مهمة بسيطة لا يمكن ان نقول ان سببها مؤامرة سعودية ولا قطرية.rnوهناك بطالة مشابهة وردت في ثرثرة بين سيدتين غريبتي الاطوار كانتا في السيارة القادمة من البصرة. الاولى معلمة متقاعدة والثانية خبيرة بيئية ترتدي النقاب وتستخدم مصطلحات كيمياوية لم اسمع بها سابقا بالطبع، وتنهال على ابنها بالشتائم عبر الهاتف مرتين كل نصف ساعة قاطعة مداخلاتها الرهيبة حول اثار السموم في مخلفات الصناعة البترولية.rnالسيدة الاولى تقول ان الحكومة من حقها ان تمن على الشعب لانها تدفع مرتبات "عالية" لموظفين ثلاثة ارباعهم لا يعملون. وتتحدث عن قريب لها يعمل في مصنع شهير متوقف منذ عشرين عاما. المدير طلب من موظفيه ان يعملوا في مناوبات بحيث لا يتوجب على كل منهم سوى الحضور مرتين في الاسبوع، لان الكادر تضخم والمعمل متوقف بلا تطوير، والمكان لم يعد يتسع لهم لو حضروا كلهم في يوم دوام واحد! بعض الموظفين يتمنى ان يكون منتجا لكن في الحقيقة فإن المدير ليست لديه اي امكانية لهذا الانتاج. اما الموظفة الاخرى فتعتقد ان من حق الشعب ان يتدلل على الحكومة لانها تأخذ كل عوائد النفط وتفشل في تنظيم كراج.rnوبين كل هذه السجالات كنت منشغلا بكتاب عن سيرة الخليل بن احمد للراحل الدكتور مهدي المخزومي، استعرض فيه الحياة الفكرية في عراق القرن التاسع الميلادي، لكنني رحت بين الحين والاخر احاول ان اتبين ملامح القفار والصحارى التي تقطعها سيارة كريسلر "اوباما" لافهم بمحاذاة اي مدينة نحن، الا ان الطريق الدولي خلا تقريبا من اي علامة دالة على المكان، وسياراتنا تقطعه "مستدلة بالنجوم" كما فعل اجدادنا الاكديون حين نزلوا وادي الرافدين. اللافتات الوحيدة التي انتشرت على طول الطريق وعرضه كانت عائدة لاحزاب او مواكب حسينية او منظمات، هذا يكتب حزب فلان يرحب بكم.. وذاك يقول موكب علان يودعكم، دون ان يذكر اي منهم مكان الترحيب او التوديع كي يقدم لنا بكلمة واحدة "خدمة جغرافية" لوجه الله.rnاحد العساكر المرابطين في نقاط التفتيش الخارجية نهشت قلبه الغيرة من اصحاب الاحزاب والمواكب كما يبدو، فقام بتعليق جدارية ضخمة من الصفيح كتب عليها بخط سيء "الفوج الثالث يرحب بكم"، لكنه ايضا لم يتكرم بوضع اي دلالة عن المكان او المنطقة، وجعلني افكر كيف اننا اصبحنا نكره الجغرافيا بعد ان جرى وضعنا عمليا "خارج التاريخ".rn
عالم آخر :الفوج الثالث يرحب بكم
نشر في: 1 سبتمبر, 2012: 09:44 م