عندما عُيّن هنري كسينجر مستشارا للأمن القومي، ثم وزيرا للخارجية الأميركية بدا الأمر مفاجئاً للجميع، فليس من السهل أن يعطى هذا المنصب في سبعينيات القرن الماضي، لرجل مولود في ألمانيا. لكن العالم ما لبث أن اعتاد مشهد الرجل حادّ النظرات، حاد اللسان، ينتقل من عاصمة إلى عاصمة، يجادل الرؤساء، يخوض غمار المسائل المعقدة، لكنه في الوقت نفسه يعشق الذهاب الى المكتبات، يجادل اصحابها ويستمتع بالتجول بين رفوفها، المكتبات وسحرها خصص لها مكانا في مذكراته "بعد يوم طويل من المفاوضات والجدل بين دهاليز السياسة، أخيراً أستريح في جولة أحرص فيها دائماً على مشاهدة باعة الكتب.. منظر يعيدني الى ايام شبابي الاولى حيث كنت احث الخطى نحو مكتبة المدينة صبيحة كل احد".
أتذكر حكاية كسينجر مع الكتب كلما قادتني قدماي الى شارع المتنبي وأتساءل؛ وهل تصح عليهم شهادة موشي دايان التي اطلقها بعد نكسة حزيران، من أننا شعوب لا تقرأ، قد يقال ان القراءة مجرد ترف، لكن أيضاً الجائع لا يقرأ والعاطل لا يقرأ والعائد إلى أولاده في المساء يفضل أن يحمل إليهم كيس فواكه على أن يتأبط ديوانا للمتنبي او رواية لغائب طعمة فرمان او دراسة عن احوال المجتمع كتبها علي الوردي، فهؤلاء آخر همومهم أن يقرأوا المزيد من الخوف واليأس والسأم.
ولكن لو اردنا ترتيب المعادلة، وسألنا هل يقرأ المسؤولون وأصحاب القرار، فهم في مأمن من جوع وخوف وبطالة؟، أكثر ما يدعو للسخرية تكالب بعض المسؤولين على الحصول على شهادة عليا فهذا دكتوراه في القانون، وذاك حصل على شهادة عليا في الآداب، وذلك أنجز أطروحته السياسية، فهم باحثون عن الشهرة، لا جديد لديهم سوى تقديم نموذج لرجل الحكم الذي يعرف كل شيء وبيده كل شيء ولكنه لا يقرأ أي شيء..
يؤكد دارسو سير الزعماء التاريخيين، ان القراءة دائما ما تؤثر في رؤيتهم بل وتساهم في تشكيل مستقبل اوطانهم ولعل أكثر الزعماء السياسيين نهماً للقراءة في التاريخ هو وليام جلادستون، الذي كان رئيساً لوزراء بريطانيا في القرن التاسع عشر. وتشير مذكراته إلى أنه قرأ 20 ألف كتاب خلال حياته التي دامت 88 سنة. لكن توماس جيفرسون، الرئيس الأمريكي، لم يكن بأقل شأناً هو الآخر في ما يتعلق بقراءة الكتب. وقد أورث مكتبته البالغة 6400 كتاب إلى الجهة التي أصبحت فيما بعد مكتبة الكونغرس. ويخبرنا دي سليفا، رئيس البرازيل الأسبق، إنه يحب أن يأوي إلى السرير ومعه إحدى روايات ماركيز. ويضيف دائما ما افتح رواية ماركيز الشهيرة "الحب في زمن الكوليرا"، فيما ظل توني بلير يشرح لزائريه كيف سحرته رواية فيليب روث، والتي تروي حكاية مواطن يحلم بان يصبح رئيسا للوزراء والشروط التي يضعها لهذا المنصب، أن يكون ذكياً، لكن لا داعي لأن يكون عبقرياً. وينبغي أن يكون ذا ضمير حي، لكن لا ينبغي أبداً أن يكون ضعيفاً، وأن يكون جريئاً، دون أن يكون متهوراً، وينبغي أن تكون لديه القدرة على هضم واستيعاب الأفكار، وأن يكون حلو المعشر، والأهم من هذا كله أن يكون عديم الإحساس بالانتقادات''.
ودعونا نسأل: ما هي قائمة الكتب المفضلة عند بعض سياسيينا، من قرأ منهم وعاظ السلاطين لعلي الوردي او تعليقات الرصافي او تاريخ الوزارات العراقية للحسني، من منهم يعرف ان هناك شاعرا عراقيا اسمه كاظم الحجاج كتب ذات يوم:
أنا أتوضأ، دون صلاةٍ، وهذي شماليْ
أعف وأطهر ممن يصلي نهاراً، ويسرق في الليل خبز عيالي!:
أنا لا أصوم!
أنا صائم منذ ستين عامْ!
أجوع وآكلُ
لكنني لا أبسمل عن لقمةٍ بالحرامْ!
أنا لا أزكي!
فمن أين ليْ؟
وحتى لحافي.. قصير على أرجلي؟!
يكتب الرئيس الفرنسي الراحل ميتران هذه العبارة المؤثرة: ''يفقد الإنسان اتصاله بالواقع إذا لم يكن محاطاً بكتبه" بينما يفقد ساستنا اتصالهم بالواقع يوميا، لانهم محاطون بالانتهازيين والجهلة والقتلة، والاهم أنهم يصلون في النهار، ويسرقون ويقتلون في وضح النهار ايضاً.
جميع التعليقات 1
د هادي االخشان
مقال رائع حفظ الله هذا اليراع اصحابنا ممشغولون بالنهب واالسرقةفهم قوم استحوذ عليهم الشيطان فانساهم ذكر الله إ. د هادي الخشان استشاري جراحه زميل كلية الجراحين Mch cairo frcsg frcsi