سرمد الطائيآخر ما فعلته ليل الاثنين حديث عابر على قارعة الطريق مع شرطي. لكن الأمر تحول إلى سرد لآلام شريحة واسعة من المجتمع وهم منتسبو الجيش والشرطة. إنهم مليون عراقي، أي أن هناك واحدا من كل 28 عراقيا، يعمل في هذه المؤسسات ويمر بتجارب غريبة ويعيش ضغطا رهيبا.
محدثي كان يرتدي ملابس الشرطة ويعلن استقالته امام زملائه، ويصرخ بعصبية شديدة. استوقفني ونجحت في إبعاده عن الحشد من حوله، وراح يؤكد لي انه استقال للمرة الثالثة ثم عاد عن قراره لكنه مصر هذه المرة على "الهرب" من جهاز الامن الى الأبد.الرجل يحدثني عن 7 أعوام من العمل في سلك الشرطة. سبقتها 7 اعوام ايضا من العمل كمظلي في الجيش. هو مؤمن بأهمية ما قام به وقد تعرض الى الإصابة 4 مرات خلال أعوام الموت، الا انه يشعر بتعب رهيب ويعجز عن مقاومة ظروف المؤسسة الامنية رغم انه تحمل آلام اصاباته التي كانت "تجارب موت" كما يقول.يتحدث عن الاعوام الصعبة في 2005 و2006، اذ كان المظلي السابق يقود شاحنة تابعة إلى شرطة بغداد، ومسؤوليته هي "جمع الجثث" من أماكن التفجيرات المرعبة. المظلي الذي كان يهبط من السماء، صار يجمع أشلاء الموتى الصاعدين نحو سماء أخرى، وبقي عالقا في ذهنه مشهد رجل نجا بأعجوبة من انفجار رهيب وسط بغداد، وبقي وحيدا بين عدد كبير من الموتى والجرحى. وبدل أن يفرح الناجي بسلامته سارع إلى سرقة ما بحوزة الموتى من نقود! صاحبنا المظلي كان أول الواصلين إلى المكان، وهاله أن يرى عملية تسليب وسط حفلة دم. يقول: لم اضربه لكني قمت بتقييد يديه ورميته في سيارة نقل الجثث وبقي هناك عدة ساعات حتى نقله الضابط الى السجن!اقول للمظلي هذا إن الفاسدين واللصوص يظهرون في كل مكان، لكنه كشرطي يحدثني عن نسبة الانهيار الإنساني في مجتمعنا معتقدا أنها نسبة مرتفعة مقارنة بالشعوب التي لم تشهد الكوارث. المظلي هذا يفلسف الأمور ويؤكد أن مجتمع الكارثة "أوسخ مجتمع"! يا الهي ماذا تقول نحن نعيش مع ملايين الطيبين يا رجل؟ فيرد: هل عليّ أن أقول لك أنني جرحت أربع مرات، وفي إحداهن قام احد زملائي بسرقة مسدسي بأمل أن ألقى حتفي وينساني الناس ويهملون سلاحي "المفقود"! في وسع بضعة آلاف فاسد أن يقوموا بتخريب مؤسسة من مليون عسكري.الرجل يستذكر الأيام الأولى لتأسيس الشرطة الجديدة: كنا اقل تسليحا في البداية، لكن "قلب على قلب". أما اليوم فالمؤسسة دائرة صراع رهيب لا يتحمله أمثالي. أما العقوبات التي نتعرض لها فشنيعة ويمكن لضابط غاضب من تعثر صفقة فاسدة أن ينكل بعشرات المنتسبين. الضباط الجيدون محاصرون من العناصر الفاسدة.وتتواصل شكواه: نطبق القانون على أشخاص ويتبين فيما بعد أنهم يعملون مع الكبار فنتلقى عقوبات رهيبة. كل مرة كنت أنال عقوبة سجن وقطع جزء موجع من الراتب. أخيرا اضطررت للسماح بمرور سيارة تحمل مريضا، أمام رتل سياسي نصف معروف فسجنوني عشرة أيام وقطعوا راتبي.تركت هذا المظلي الذي يحلم بالتحليق مرة أخرى، وواصلت طريقي، وفكرت في الجهود الهائلة والتضحيات التي بذلت داخل المؤسسة الأمنية والعسكرية. وفي كونهم اصبحوا قادرين على تحقيق قدر كبير من السيطرة مقارنة بأيام كان فيها المسلحون يسرحون ويمرحون. لكني شعرت ايضا بأن الجميع يتجاهل أوضاعاً حرجا وتجارب مرة، يعيشها منتسبو هذه الأجهزة، الذين يجمعون جثثنا تارة، ونتولى نحن إحصاء جنائزهم تارة أخرى. هذه الظروف هي التي تمنع جهاز الأمن من أن يتكامل. وتبقيه حبيس الإهمال والأخطاء المكررة، وجميعنا ندفع الثمن.الانهيار في مجتمع الكارثة، يحاصر العناصر الصالحة في كل مكان، ويقلص مساحة الفعل الصحيح. الأمر بحاجة دوما إلى ملهم يوقظ في الناس نوازعهم الطيبة، ولكن من اين؟ اداء الساسة ام ثراؤهم الفاحش، ام غطرستهم وانقساماتهم والجهلة الذين يحيطون بهم، والرعونة التي يرتجلونها كل يوم؟إن الكثير من ساسة هذا الزمان (وذاك) يقلبون جثثنا ويسرقون ما تبقى من أحلام في جيوب مزقتها الحروب والكوارث. ونحن "مظليي التاريخ" هبطنا إلى قاع عسير، وعلينا تحمل المزيد من الانتظار كي يتاح لنا التحليق ثانية. هل سنحلق مرة أخرى؟
عالم آخر: مظلي هارب من سراق الموتى
نشر في: 3 سبتمبر, 2012: 09:10 م