احمد المهناأعتقد أن هناك دَيْنا كبيرا سيظل بذمتنا تجاه سوريا. وهو دَيْن معرفة قبل كل شيء آخر. وأهم اكتشاف تضيئه هذه المعرفة أن العرب خرافة. وَهْم. ولربما يكون ديغول قد وضع تعريفا جيدا للخرافة، في عصر المد الشيوعي. قال أن الخرافة هي ماركسية المثقفين الذين لم يقرأوا ماركس.
rnوكان الجنرال يتحدث عن شيء عرفناه، وعايشناه، وقد مثل الأمل الأكبر في القرن العشرين. ولم يكد ذلك القرن ينصرم حتى تكشف الأمل عن وهم خطير ومكلف للغاية. فقد كان أملا بامكانية كمال العالم. والبحث عن الكمال، في هذا العالم المشوب أبدا بالفساد، هو "صيغة لسفك الدماء" على رأي مفكر عظيم. rnولكن ما تكشف عن وهم كان ذروة أشواق بشرية منذ فجر الفكر الانساني الى جنة على الأرض. وقد خرجت من معطف الماركسية اللاخرافية شخصيات عظيمة في التاريخ، شأن ليون تروتسكي. كما خرج من الماركسية الخرافية مناضلون زاهدون بلا عد في أرجاء المعمورة، وفيهم كثيرون قدموا أنفسهم ضحايا على مذبح الأمل. وكانوا بذلك نفوسا كبيرة. لقد كان الأمل حقيقيا وكان النضال من أجله حقيقيا. وكان في الوقت نفسه خرافة نبيلة طالما بقيت في مدار الأفكار والأحلام، ولكن قاسية ووحشية كلما أخذت طريقها الى التطبيق. كانت خرافة مضيئة ومظلمة.rnأما الخرافة التي كشفت عنها سوريا فمن نوع مختلف، مشين ومظلم على طول الخط. وهذه الخرافة هي "بشرية" العرب الذين لم يشعروا بمأساة سوريا. والناس توسم بالبشرية لشعورها الحي لا الميت. والعرب الذين لا يشعرون بعذاب سوريا ليسوا بشرا. كم يشكل هؤلاء؟ الا أكون محقا عندما أقول نحن العرب جميعا فقدنا الشعور؟rnقد لا تكون مأساة سوريا فريدة في تاريخنا المعاصر. ولكنها فريدة من حيث وقوعها ملء السمع والبصر بعد ظهور وسائل الاتصال الحديثة. المآسي السابقة كانت معماة، مخفية، تجري بعيدا عن المسامع والأنظار. واذا اكتشف أمرها فيكون ذلك بالتقسيط، وبعد وقت يقصر أو يطول من وقوعها. أما ماساة سوريا فبث مباشر مستمر على الهواء منذ 18 شهرا. ومع ذلك تبدو لنا وكأنها حدث معزول يجري في كولومبيا.rnنعم قد تهتم هذه الحكومة العربية أو تلك، بمآسي السوريين الفظيعة، وتتخذ المواقف الواجبة ضد النظام السفاح. ولكن ماذا عن خلق الله من الشعوب العربية؟ انهم لا يشعرون. لا دليل أبدا على أننا نشعر. هذه أجمل وأكرم بلاد العرب تدمر، تسوى بالأرض، يقتل أهلها، ويذبح شعبها ويستباح بكل الأسلحة، من البدائية البيضاء الى المروحيات والطائرات الحربية. كل هذا والعرب جامدون، ولا تظاهرة واحدة، لا يشعرون.rnالأسوأ أن سوريا تحرك دم بعضنا ولكن ليس بعوامل الأخوة في العروبة والديانة والانسانية، وانما بدوافع طائفية، بـ "حساسية طائفية". والتعاطف الصادر منها ينقسم على الهوية بين الضحية والجلاد. وهو تعاطف يضيف على المأساة أمراض الخرافات المزمنة، أمراض الخرافات المميتة. وهناك في عالم العرب اليوم خرافتان. الأولى مميتة وهي اسلام الطائفيين الذين لم يقرأوا الإسلام. والثانية ميتة، جسد بلا روح، وهي بشريتنا المتوهمة نحن العرب. ونحن بين الخرافتين مقسومين الى قاتل وقتيل. والقاتل لا يعاتَب والقتيل لا يلام. وكلاهما ابتلاء لا يشجع العالم على الاقتراب منه، اللهم إلا بهدف التغطية الصحفية. وهل هناك أكثر اثارة عند الأحياء من هاوية الموتى؟ rnسوريا ذروة الربيع العربي، لأنها ذروة الكشف عن الخراب العربي، لأنها قصة اعلان الموت العربي.rnrn
أحاديث شفوية : لا يشعرون
نشر في: 4 سبتمبر, 2012: 09:44 م