TOP

جريدة المدى > مقالات واعمدة ارشيف > تلويحة المدى: نحو أكبر نصب كونكريتيّ في العراق الحديث

تلويحة المدى: نحو أكبر نصب كونكريتيّ في العراق الحديث

نشر في: 7 سبتمبر, 2012: 06:23 م

 شاكر لعيبييتذكّر صديقي علاء المفرجي أنني، عند وصولي للعراق لأول مرة بعد غياب ثلاثين عاماً ومشاهدتي للجدران الكونكريتية في البلد، قد اقترحتُ في مكتبه في "المدى" إعلان مسابقةٍ لأكبر نصب أو منحوتة تفيد وتستغلّ مباشرة الكتل الكونكريتية في بغداد، على أن تُقام في بقعة مجاورة للمدينة بحيث يتمكّن الجمهور العراقيّ من الوصول إليها بسهولة.
وذلك من أجل أن لا تذهب هذه الكتل إلى العَدَم بعد إزالتها، ولكي تبقى في الذاكرة العراقية والعربية شاهداً على محطة مؤلمة في تاريخ العراق الحديث. نصبٌ ضخمٌ، بل بالغ الضخامة، ضدّ الطائفية والتمزق والدكتاتورية والحروب الأهلية والاحتلال الأجنبيّ. تحمَّس المفرجي بمخيّلته السينمائية لمخيّلتي، وقال اكتب المشروع، لكي ننشره في الصحيفة. عند عودتي إلى المنزل صرتُ أضع لمسات جديدة يُستطاع عبرها تحقيق الفكرة: فكّرتُ بلجنةٍ استشارية (جاءت إلى ذهني بسرعة أسماء أولية للمعماريين رفعت الجادرجي وخالد السلطانيّ، وغابت عني أسماء النحّاتين)، وفكّرت بمموِّل محدّد للمشروع. ثم شاهدتُ كما يشاهد النائمُ المشاريعَ الواصلة على طاولة عريضة وثلة من الرجال والنساء تنحني عليها وتدْرسها وتتناقش بروح متوثبة.عند تجوالي في المدينة ومراقبتي لعلاقة سكّان بغداد اليومية الفعلية بهذه الكتل الكونكريتية، حيث المأزق الوجوديّ والنفسيّ والجسديّ، ووقوفها بالتعارُض مع الفضاء المدينيّ الطبيعيّ، بهتت الفكرة، وقلَّ حماسي للموضوع، لكنني لم أنسه.إعلان دائرة الفنون التشكيلية يوم 29-8-2012 لنتائج مسابقة النصب والتماثيل، ضمن مشروع بغداد عاصمة الثقافة العربية 2013، جعلني أعاود التفكير بالمشروع، وأتيقن، بعد مشاهدتي لبعض الأعمال المنشورة في الصحافة، أن مقترَح النصب الكونكريتيّ ممكن، وأقرب للتحقق مما ظننتُ في لحظة يأسي. بل أرى أن كل مخيلة مثلها ممكنة التنفيذ إلى حدّ كبير، وأن هناك اليوم تحت تصرُّف هذه المشروع المتخيّل، خامة أولية كبيرة و"ثمينة"، تحتاج الى النقل والمعالجة البلاستيكية الشخصية. لكن التنفيذ يتطلب إمكانية تتجاوز المموّل الذي فكّرتُ به بادئ الأمر، وتحتاج إلى آله الدولة المالية التي، مثلما نَصبتْ هذه الأعمدة، يمكنها أن تزيلها لكن واضعة إياها لاحقاً تحت تصرّف الفنانين العراقيين أو العرب أو العالميين، ثم تضع تحت تصرّفهم الوسائل التي تسمح لهم بإعادة تشكيلها، تقطيعها، تطويعها، رفعها، نحتها، وجعلها أخيراً عملاً فنياً صافياً.إن تحقيق مشروع مثل الذي نقترحه لا يشكل حدثاً خارقاً للعادة في عالمنا المعاصر. يلزمه فحسب إيمان صادق بفاعلية الفن الجمالية، وتعالقاته الاجتماعية المرهَفة، وتمويلاً، من دون أن يكون شعاراً ولا طقساً ولا التزاماً سياسياً. المشكلة هي أن الدولة العراقية الحالية عاطلة عن المخيّلة، السياسية والفنية، ولعلها لا تؤمن بها. وأظنها لا تؤمن بإمكانات المثقفين الطليعيين والجدد على الإطلاق، وخاصة غير الراكبين مركبها الثقافيّ. وهنا أمر كانت تؤاخِذ عليه النظامَ السابق. أقول ذلك وأنا أرى منجز دائرة الفنون التشكيلية وكأنه استثناءٌ محمود، لا يمشي بالتوازي معه فعلٌ مماثِلٌ في الحقول الأخرى النظيرة كالتعليم العالي وشؤون المرأة وما إليهما.علينا التذكير فحسب، أن مشاريع بالحجم المقترَح نفسه، تتحقق يومياً في كل مكان في العالم، سواءً على شكل عمارات في اليابان ودبي ونيويورك، وعلى يد معماريين مشهورين (نعرف بعضهم عراقياً مثل زها حديد)، أو على يد نحّاتين وفنانين كبار، نذكر منهم فحسب البريطانيّ من أصل هندي أنيش كابور الذي يُقِيْم منحوتات كبيرة، يقع بعضها تحت باب الزائل والمؤقت، أي أنها يمكن أن تزال بعد وقت قصير من إنجازها. وهنا نرى أن الإيمان بالفن والجمال هو الدافع الأعظم الذي يقف وراء مموّل مشاريع كابور المؤقتة. وهو ما يمكن أن يدفع لتمويل نصب ثابت وغير مؤقت كالذي نقترح.وأخيراً نرجو أن لا يخلط سياسيّو دولتنا بين شامي كابور مغني الأفلام الهندية السبعينية، وأنيش كابور الفنان المعاصر.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

حياتي وموت علي طالب

حياتي وموت علي طالب

غادة العاملي في لحظة تزامنت فيها الحياة مع الموت استعدت ذكريات عشر سنوات ،أو أكثر .. أختصرها الآن في ذاكرتي بالأشهر الثلاثة الأخيرة. حينما اتفقنا أناقرر هو أن يسافر ملبيا الدعوة التي انتظرها لأكثر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram