سرمد الطائيافكر في المواجهة الدائرة بين الاسلاميين والعلمانيين في عراق اليوم وأقلب بعض صفحات التاريخ عودة الى سنة 1917، واحاول ان لا انصت الى كلام بعض المعلقين الذين يرفضون ان ننشغل بـ"قنينة خمر كسرها الجنود" وننسى قضايا الوطن الكبرى.
بعد انتهاء الشوط الرئيسي من النزاع المسلح في الوطن، وجد الطرف الاعزل ان حاملي السيوف توافقوا وتحاوروا وتصالحوا وتحالفوا وتقاسموا المغانم، فيما بقي هو خارج دائرة اي حوار او اتفاق تقريبا. وهناك من يقوم بتذكير الطرف اليساري والديمقراطي والحداثي الذي لم يكن من حملة السيف، بأنه يمثل "اقلية منبوذة" وان عليه ان يعيد تشكيل حياته وفق الرؤية المتشددة والمتزمتة، او يهاجر بحثا عن مكان يقبل طريقة الحياة الحديثة.وما جرى ليل الثلاثاء من ضرب وركل واهانة لمرتادي اعرق النوادي في بغداد واغلاق ابوابها قسرا، كما حصل في نادي الصيادلة والسينمائيين والاشوريين والكلدان والادباء، يعيد تذكيرنا بأن التيار اليساري والديمقراطي لم يبرم اتفاقا يخصه مع مراكز القوى، بينما ابرم المسلحون والميليشيات والتيارات المتشددة وحتى قادة في حزب البعث، اتفاقاتهم الخاصة مع الطرف القوي وحصلوا على جزء ارضاهم من الحقوق والمكتسبات.لم يخض الديمقراطيون حوارهم المطلوب رغم ان الهدف منه ليس مصلحة اشخاص بقدر ما هو اتفاق على هوية وطن وشكل نظام ونمط حياة. ان الحوار الغائب بين التيار الديني والجماعات الديمقراطية، يفترض به ان يضع حدا لمجموعة امور تخص الجماعة المؤمنة وتصوراتها، ويرسم خيارات التيار الداعم لشكل الحياة الحديث وحقوقه في الوطن. هل حقا ان العلمانيين مجرد اقلية عليها ان تعيش مثل منتسبي الاسلام السياسي وتقبل بنمط قوالبهم للحياة؟ وهل هناك طرف سياسي في السلطة يجرؤ ان يقول بكلمة واضحة ان لا مكان للعلمانيين في العراق؟ واساسا هل هي مشكلة العلمانيين ام مشكلة العلمانيين والاسلاميين معا؟ان الاعتداء على المظاهر العلمانية في الحياة لا يتعلق وحسب بمليون علماني او اكثر يعيشون في هذه البلاد. فالمظاهر العلمانية المتعارف عليها منذ عصر كلكامش هي التي ترسم صورتنا امام العالم وتضع حدا فاصلا بين هوية مدننا، وهويات تلك المدن المعزولة التي يعيش فيها لون واحد من الناس وفكرة واحدة وقانون صارم.العراقيون اليوم قسمان. الاول خائف من العالم الحديث ويعتقد ان عليه الانصات لكلام المتشددين والحفاظ على طريقة حياة تقليدية بقوائم منع طويلة تتعلق بالمأكل والملبس وحق المعرفة وكل شيء اخر. اما القسم الثاني فيعتقد ان العراق معزول عن العالم منذ عقود، وان من حق الرجال والنساء هنا ان يحلموا بنمط حياة كذلك الذي يتاح لنظرائهم في تركيا او اسبانيا. وخيار كل طرف سيرسم صورة بلادنا امام رؤوس الاموال وفرص الاستثمار والعلاقة بالعالم المتقدم.ولكي لا تتم تسوية هذا الانقسام العراقي بركلات الجنود على مؤخرات مرتادي النوادي والحانات، فإن المطلوب ان يتذكر الجميع ان الخلاف ليس بين عراقي ملتزم دينيا وعراقي علماني، بل الخلاف بين عراقي متشدد دينيا، وبين معسكر واسع ينتمي اليه علمانيو العراق ويشمل مليارات من البشر يعيشون طريقة حديثة في لحظتنا هذه وفي معظم بلاد الله. من هي الأقلية اذن واي خيار يجب ان نأخذ بعين الاعتبار حين نرسم صورة بلادنا امام الكون؟ هل هذا النقاش محوره قنينة خمر، ام شكل للوطن سيحسم صورتنا امام العالم؟ولو قدر لعراقيي مطلع القرن العشرين ان يستمعوا الى سجالاتنا هذه لسخروا منها. ذلك انهم كانوا اكثر حداثة منا واوسع حيلة في تسوية مشاكلهم. اقرأ الان في كتاب احسان وفيق "عبير التوابل والموانئ البعيدة" قصاصة من صحيفة كانت تصدر في البصرة عام 1917 تقول "اجتمع الشيخ محمد امين باش اعيان في البلدية بالسادة.... واعلنوا الضرائب الجديدة على السينماتوقراف والمراقص والحانات والملاهي..الخ". عراقيو الحرب العالمية الاولى لم يكونوا بلا دين. لكنهم اختاروا ان لا يصطدم الدين بطريقة الحياة الحديثة، ووضعوا انظمة تكفل ان يعيش الجميع بسلام، لا هذا يؤذي هذا ولا ذاك يتعرض لذاك. كانوا يستمعون الى شكوى تشبه ما يقوله بعض اهالي الكرادة الضائقين ذرعا بالملاهي، لكنهم لم يركلوا مؤخرات مرتاديها، بل وضعوا الضرائب ونظموا اماكن نشاطها وحددوا ساعات عملها مثل كل البلاد المحترمة الاخرى. حادثة ليل الثلاثاء تجعلنا امام لحظة حاسمة. اي شكل نريد لعلاقتنا مع العالم المتحضر؟ واي مصير نريد لتاريخ التعدد الثقافي في بلادنا؟ ان هذا السؤال لا يتعلق بقنينة خمر ايها السادة. لكنها اسئلة لا يوجد هذه اللحظة رجل دولة يحمل لياقات الانصات لها والاجابة عليها.
عالم آخر: مواجهة مع العلمانية أم العالم؟
نشر في: 8 سبتمبر, 2012: 09:30 م