لندن/عدنان حسين أحمداستضافت مؤسسة الحوار الإنساني بلندن الفنان والمخرج جمال أمين في أمسية سينمائية حملت عنوان "جمال أمين ممثلاً" وقد أدارها كاتب هذه السطور، وفعّل الحوار بين الضيف وجمهور الحاضرين. وقد تمّ عرض فيلمين من الأفلام التي اشترك فيها وهما "صائد الأضواء" إخراج محمد توفيق، و"العربانة" لهادي ماهود.
وقد سبق لجمال أمين أن اشترك في عدد من الأفلام الروائية المميزة في السينما العراقية من بينها "تحت سماء واحدة" لمنذر جميل، و"اللوحة"، و"البَنْدُول" لكارلو هارتيون، و"بيوت في ذلك الزقاق" للمخرج المعروف قاسم حول.تدور قصة فيلم "العربانة" حول رجل مجنون يقود عربانة العراق إلى الهلاك. يتوفر الفلم على خطاب بصري لافت للانتباه، كما تنطوي بنيته السردية على محمولات رمزية كثيرة. فلقد أراد المخرج أن يروي للمتلقين الأحداث الجسيمة التي مرَ بها العراقيون في حقبة النظام الشمولي السابق. لم يعتمد المخرج ماهود في إيصال رسالته الفنية على خطاب تقريري مباشر يمكن للمُشاهِد أن يجده في الأخبار والتقارير الصحفية العابرة، وإنما هو يعوّل دائماً على اللغة السينمائية البليغة. وعلى مدى أحد عشر مشهداً أوجز هادي ماهود رؤيته الإخراجية التي تتمحور حول عرض عدد غير قليل من الثيمات الفرعية التي تصب جميعها في خدمة الثيمة المهيمنة للفلم وهي الحروب المتلاحقة التي مرّ بها العراق بفعل الدكتاتور الذي كان يقف على حافة الجنون، ويتخذ القرارات العشوائية الطائشة التي أفضت في نهاية المطاف إلى تحويل المضايف المبنية من القصب، وهي رمز كبير للأُسر والقبائل العراقية في وسط العراق وجنوبه، إلى أماكن ترعى فيها الأغنام والماشية. لا شك في أن الحروب تكشف عن جملة من القيم المتخلفة وتُظهِرها إلى السطح حيث تتسيّد الصورة المشوّهة للدين، كما تهيمن العادات والتقاليد البالية على المجتمع وتصادر حقه في التفكير والاجتهاد، فلا غرابة أن يدهمنا الموروث الشعبي الذي نراه مُجسداً في الطاشوشة"، أي العرّافة، وهي تلقي بالأحجار في سلّتها المصنوعة من الخوص. كما سنلاحظ لاحقاً كيف يقودنا المخرج عن قصد إلى الموروث الحسيني الذي تتفاقم حدّته في الحروب والمحن الكبيرة التي تحصد أرواح العراقيين، ولعل الإشارة إلى اللازمة التي تكررها النائحات "اليوم الوالي مضيّعينه" هي خير مثال لهذا الحزن العراقي المتأصل في النفوس وكأنه قدر لا فرار منه، فهنّ يندبن الأولاد والأزواج والأحبة. وعلى الرغم من المَشاهد المؤسية كلها إلا أن هادي ماهود ختم فيلمه بنهاية تفاؤلية تحمل الكثير من الأمل للعراقيين. فالأطفال الذين يحملون البالونات الملوّنة ويغنون أغاني جميلة تحمل قدراً كبيراً من البراءة يدفع بالمتلقين إلى التشبث ببصيص الضوء الذي نراه في نهاية النفق.أثار فيلم "العربانة" العديد من الأسئلة التي تمحورت حول الثيمة الأساسية للفيلم من جهة وحول أداء الشخصيات الرئيسية من جهة أخرى، وبالذات قائد "العربانة" المجنون الذي يحمل جندياً متعباً يستذكر الأحداث الجسيمة التي مرّ بها خلال الحروب التي خاضها العراقيون على مدى ثلاثة عقود ونصف العقد. يصِّر جمال أمين، الشخصية المُستضافة في الأمسية السينمائية، على أنه البطل الرئيسي في الفيلم لأنه هو الذي يقود "عربانة" العراق إلى المجهول، بينما ارتأى المخرج هادي ماهود في أثناء مونتاج الفيلم بأن يكون طه المشهداني هو صاحب البطولة المطلقة للفيلم، خصوصاً وأنه يتواجد على ظهر العربانة منذ بداية الفيلم إلى نهايته، ويتذكر خلال تواجده المَشاهد العصيبة التي مرّ بها ودفعته ذات مرّة لأن ينزع خوذته العسكرية ويرميها بعيداً عنه في إشارة واضحة إلى نبذ الحرب ومحاولة يائسة للتخلص من أدواتها التي تحيل مباشرة إلى أتونها. أثنى المخرج أكرم جمعة على قدرة هادي ماهود في إدارة طاقم عمل الفيلم برمته الذي يتكوّن من ممثلين محترفين وأناس عاديين، إضافة إلى الطاقم التقني بمن فيهم الموسيقي والمونتير وأصحاب المؤثرات الصوتية والبصرية، لكنه اعترض على أن تكون العربانة هي المعادل الموضوعي للعراق ودليله في ذلك أن الفيلم انتهى نهاية تفاؤلية سعيدة توحي بكثير من الأمل الذي زرعه الأطفال المحتفون بالحياة. شارك في نقاش ثيمة الفيلم والتعليق على وحداته البصرية عدد كبير من الحاضرين نذكر منهم دلال جويِّد، ثناء البصام، بدور الددة، ورود الموسوي، بحر كاظم، عمر صكبان، وآخرين لا يسع المجال لذكرهم جميعاً. واختتم الكاتب خالد القشطيني الأمسية حينما قال: "إن المثقف العراقي يصرف من جيبه الخاص لكي يصنع فيلماً أو يؤلف كتاباً أو يبدع لوحة فنية، ليس في العراق حسب، وإنما في الوطن العربي كله، ولذلك فهو يستحق أن نبني تمثالاً للمثقف المجهول، بدل أن نبني تمثالاً للجندي المجهول"!
"عربانة"العراق الذاهبة صوب المجهول!
نشر في: 9 سبتمبر, 2012: 06:23 م