سرمد الطائيخلال آخر خمسين سنة، دائماً كان سلطاننا يعادي الجميع لأن مزاجه سيئ، ولان تعريفه للبطولة كان يساوي الرعونة والارتجال والتسرع. ودائما كانت بطولة السلطان تنتهي بهزيمة نكراء دفع ثمنها آباؤنا ونحن وسيستمر بدفعها ابناؤنا كما يبدو. نحن المحكومين ندفع الثمن. سمعنا صوت الموت عبر الجبال في السبعينات، ثم خسرنا شط العرب.
وسمعنا الموت على ضفتي شط العرب وعند نهايات هضبة زاغروس في الثمانينات لنخسر ازدهار السبعينات، ثم راح الموت يتناثر على رؤوسنا فوق كل سنتمتر عراقي من ٩١ إلى ٢٠٠٣، بعدها صار الموت يتناثر لا فوق رؤوسنا بل داخل جلابيبنا منذ ٢٠٠٣. ثم أننا كنا نعرف في السابق او نرى وجه القاتل، اما اليوم فانه قتل من الداخل عبر احتراب رهيب يقوده بزنس مسلح ووقوده الشباب المخلوقون في عصر الانهيار كما ذكرت امس.وبعد كل هذا الموت حصلنا على وطن من الخواء، والقمامة والبترول الذاهب لجيوب الفاسدين او تجار السوق الرديئة. والامل لا يموت بتغيير الحال.لكن سواء عرفنا القاتل ام جهلناه فإن ما ندركه جيدا ان موهبة سلاطيننا الواضحة في معاداة الاخرين هي التي تشجع العالم على قتلنا. ولاننا مصدر لعداوة شاملة فدوما كنا نموت دون ان يبكي علينا احد.دائما تظهر براعة الساسة عبر العالم عند تصميمهم دون ملل وبصبر أسطوري، تلك الحلول المبتكرة التي تضع قواعد السلام. حتى الحروب عند رجال الدول الكبرى هي وسيلة لوضع قواعد سلام. أما لدينا فان براعة الساسة لا تظهر إلا في صناعة أسباب العداوة، ويكبر السلطان بعين الجمهور لأنه بطل أثار غضب ثلاثين حزبا وخمسين دولة وكارتلات تجارية لا تحصى. ثم يأتي الرد بقتل الجمهور المعجب ببطولة السلطان. دائما يقودنا السلطان من موت إلى آخر ونحن نلتمس له الأعذار وننهمك في وصف جرأته على خلق عدد لا يحصى من الأعداء.خلال ألفين وثمانية بدأت أمورنا تستتب لان التوجه كان نزع التوتر مع الجميع. البوصلة العراقية دارت بنحو ايجابي لأول مرة وراحت مراكز القوى تستطلع رغبة العراق في استبدال قواعد الرعونة بتقاليد الكياسة والهدوء والصفقات الصبورة والعلاقات الطيبة مع الجميع، وكل شيء يشجع العراق على ذلك فالصديقان الأمريكي والإيراني بحاجة إلينا، وعمالقة البترول أناخوا ركابهم هنا، والطريق مفتوحة لصفحة جديدة مبنية على تقدير صحيح للقوة يتخلص من المبالغات ولا يستعجل الحصول على المكاسب.كان السلطان لحظتها يشعر بالحاجة الى التهدئة، والنتيجة ان الامور هدأت فعلا. اما ومنذ خروج الجيش الامريكي مطلع العام، فإن فريق السلطان خلع لبوس السلام وارتدى لامة الحرب. وخلال بضعة اسابيع وجدنا انفسنا نهدد عمالقة البترول بالطرد ونهدد مسعود بارزاني بقطع الموازنة، ونصدر حكما سريعا باعدام نائب الرئيس والزعيم في القائمة العراقية، ونتهم مقتدى الصدر بأنه عميل للدوحة، ونشتم اردوغان واوغلو والعاهل السعودي ورئيس مصر دفعة واحدة، مدفوعين بغياب رؤية عراقية للملف السوري. آخر كلام شديد سمعه فريق سلطاننا جاء من طرف أمريكا التي قالت ان بغداد تسمح للإيرانيين بنقل الأسلحة عبر أجواء العراق.هل لكم ان تقيسوا مساحة العداوات التي خلقناها في بضعة شهور؟كل مرة يخرج الجمهور الميت ليلعن من كان السبب. وكل مرة يقول الجمهور المتبقي على قيد الحياة إن السبب هو إسرائيل وأمريكا وعاهل السعودية وأمير الدوحة، سواء كان الحاكم صدام حسين ام نوري المالكي. فرق كبير بين الرجلين والنظامين، لكن الجمهور الذي يموت بطريقة مؤلمة، يجري تعبئته بأن مصدر الموت تلك الجهات المذكورة.بقينا نشتم هؤلاء ولا نقدر على رد القضاء. إننا نطلق الشتيمة ونموت بينما يحصل حاكمنا على أصوات انتخابية أكثر كلما خلق دائرة عداوات أوسع.دائما أقول إن الانهيار الأمني مستحيل، فكل نواقص جنودنا لن تعني أنهم يفقدون التوازن ويخسرون الأرض. وكل نواقص جمهورنا لا تعني انه يفقد التوازن ويخوض احترابا أهلياً بعد تجربة قاسية شاهدناها قبل بضعة اعوام. لكن لغة تخاطب الناس على وقع اشد التفجيرات ألما صباح الأحد ومساءه، تجعل المرء يشعر بالهلع.الكثير من المعلقين يطالبوننا نحن الكتاب، بأن نتهم خصوم المالكي بأنهم السبب في موتنا. ولو كان المالكي قويا ومقتدرا وسياسيا محنكا لما احتاج مساندة من احمد المهنا أو عدنان حسين أو حيدر سعيد. يمكنه كسياسي محنك أن يفضح خصومه ويحاكمهم ويجر المجرمين إلى حبل المشنقة لينهي خرافة موتنا. لكنه يعلم انه خلق عداوات اكبر من طاقة الوطن وأهله، ويعلم انه عاجز عن تطبيع العلاقات بما يناسب حجم محنة الوطن وأهله. انه عاجز أيضا عن الاعتراف أو الانسحاب. والنتيجة إن كل أمهاتنا امضين ليل الاثنين في خوف وبكاء على القادم، فيما بقي معظم الخصوم يشمتون برحيلنا المؤلم.عقل الأمة لم يجد طريقة لمراجعة تاريخه، وكل ما حولنا من أزمات إقليمية تشجعنا على استنساخ تاريخ الأخطاء، وهذا يخيفني أكثر مما تخيفني مفخخات الأحد التي أبكتنا جميعا. ودائما تبدأ الهزائم في عقول المهزومين.
عالم آخر: الهزيمة في عقل الأمة
نشر في: 10 سبتمبر, 2012: 09:05 م