TOP

جريدة المدى > مقالات واعمدة ارشيف > أحاديث شفوية: معركة في مقبرة

أحاديث شفوية: معركة في مقبرة

نشر في: 10 سبتمبر, 2012: 09:29 م

 احمد المهناما من خبر جديد. الأخبار نفسها منذ عام، عامين، أكثر. تعرفونها. الوجوه نفسها أيضا. وتعرفونها كذلك. على الشاشة. على الورق. عنف وحقد وكذب ونهب. ضحايا بلا عد وجلادون كثيرون. هؤلاء يتكلمون ويصخبون. واولئك يشكون ويصرخون ويصمتون.
وخلف ذلك كله لاشيء. العنيف والحاقد والكاذب والحرامي ليسوا أشخاصا. ليسوا بشرا. انهم كائنات محمومة، مسرعة، خاطفة، شبحية. لن ترى لأحدهم صورة كاملة. ولن تجد بينهم رجلا يمثل نفسه، أو امرأة تعبر عن ذاتها. انهم أدوات خرساء في ماكنة صماء. أفراحهم واتراحهم ليست لهم. انهم مأجورون بأقوالهم وافعالهم ومشاعرهم لقوة أكبر منهم. قوة تمحق خصوصياتهم وشخصياتهم. ممثلون بائسون لنص رديء على مسرح قبيح.منذ التفكير بارتكاب جريمة، مرورا بالتخطيط والاعداد لها، وصولا الى التنفيذ، لا يكون المجرم موجودا كشخص، كفرد، كانسان ذي هوية وأهواء ومشاعر وأحاسيس وأهداف ظاهرة وأخرى عميقة.لا يوجد فيه اي شيء من ذلك. هناك شيء أكبر منه يهيمن عليه، شيء يقوده، يعميه، يجرده من المقومات الشخصية، يعدمه ويلغيه تماما. انه الجريمة ذاتها، مأخوذ بها ومصادر لها. منذ لحظة التفكير بها الى لحظة ارتكابها ومن ثم العيش والتعايش مع نتائجها.المجرم ليس موجودا كشخص. انه اسير الجريمة. أداة الجريمة. المجرم موظف لدى شرِّه اذا كانت الجريمة فردية، ولدى شرور غيره اذا كانت الجريمة جماعية. انه ليس موجودا وجودا شخصيا طبيعيا، وانما هو أداة أذى ووسيلة تعذيب. وكل وجوه الأخبار على الشاشة، على الورق، تبدو من هذا النوع. انهم يعذبون المشاهدين ويؤذون القارئين، منذ عام، عامين، ستة. صورة مؤذية، أو كلمة معذِّبة. كل يوم نفس الأوجاع ، صراعات سلمية في العلن، حربية في السر، أحقاد، أكاذيب، وفساد عظيم. ما من خبر جديد.وعندما تحتل الجريمة المسرح يضمر المشاهدون، يضيعون، ويختفون. المجرمون تحت الأضواء غير الكاشفة، والجمهور في قلب الظلام. والجمهور كتلة وليس مقسوما الى ذوات، أو أفراد. انهم ضحايا بالجملة: مقتل واصابة ودمار. أرقام وصور. القاتل غامض والقتيل مجهول. من الذي قُتل؟ متى ولد وكيف عاش وبماذا أخفق وبماذا نجح وكم استمتع وكم تعذب وبماذا حلم وماذا أراد؟ من هو هذا القتيل، أو من هي هذه الضحية؟ ما القصة؟ اليس كل انسان قصة؟لا توجد قصة، قصة واحدة ذات معنى، على الشاشة أو على الورق، منذ عام، ستة، عشرة أعوام. هنا ليس كل انسان قصة، لأن الانسان محكوم عليه بالإعدام. ان له حقوق الفرجة، والشكوى، واللطم، والتأييد، والاستنكار، وكل شيء آخر، عدا الاقتراب من خشبة المسرح، حيث يلعب الممثلون أدوارهم دون ضغوط من الجمهور، بل وبقصد تعذيب الجمهور، واستلابه، ونهبه، وجعله ضحية أبدية، لا تستطيع حتى اعطاء الشاشة أو الورق قصة ذات معنى، ولكن تؤخذ عنها الأخبار نفسها منذ عامين، ستة، عشرة: مقتل واصابة ومفخخة وحزام ناسف وعبوة لاصقة وكاتم. مفردات "الأمن" المعهودة. ثم مفردات "الخدمات" المعهودة وعلى رأسها، طبعا، الكهرباء.وللممثلين، أو المجرمين، قاموس فقير من بضع كلمات، مثل الدستور والتوافق ودول الجوار وأزمة الثقة والاصلاح والتوازن والارهاب والفساد والسوسي والسنبسي وابو علوج. لماذا نقرأ، أو نشاهد، الأخبار نفسها كل يوم منذ عام، ستة، عشرة. وكيف يكون كل هذا الصخب والعنف موجودا ولا يكون هناك خبر جديد، ولا قصة واحدة ذات معنى. ولماذا تبدو البلاد وكأنها معركة بلا هدف في مقبرة بلا سلام؟

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

حياتي وموت علي طالب

حياتي وموت علي طالب

غادة العاملي في لحظة تزامنت فيها الحياة مع الموت استعدت ذكريات عشر سنوات ،أو أكثر .. أختصرها الآن في ذاكرتي بالأشهر الثلاثة الأخيرة. حينما اتفقنا أناقرر هو أن يسافر ملبيا الدعوة التي انتظرها لأكثر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram