سرمد الطائي في درس الجغرافيا كنا نتعلم خرائط محيطنا الإقليمي قائلين إن العراق بلد تحده من الشمال تركيا ومن الشرق إيران ومن الغرب سوريا والأردن أما جنوبنا وجنوبنا الغربي فهناك الكويت والسعودية. وبعودة إلى مقرر الصف الرابع الابتدائي نجد أننا مطوقون بخيارات جعلتها السياسة أصعب مما يحتمل.
جارنا الشرقي نصف معاق، لم يعد يبيع نفطه بسلاسة، ولم يبق لديه حليف سياسي إلا فنزويلا وكوريا الشمالية وكوبا. وجارنا الغربي الأول (سوريا) اختفت فيه الدولة وأصبح دويلات تخوض حربا أهلية بين جيش السيد بشار وجيش معارضيه. جارنا الأردني محدود الإمكانات يريد أن يستفيد منا أكثر مما نستفيد منه وهو يطلب الإنقاذ من كل جيرانه خشية أن يقع في قبضة ربيع العرب الطويل. الخليجيون فسدت معهم العلاقة اشد الفساد أيام صدام حسين، وجئنا نحن لنزيدها غموضا وبرودا وقطيعة لأسباب بعضها معروف وبعضها خفي. وبين كل جيراننا العاجزين والمشلولين والمقاطعين، لم تبق سوى تركيا، تتمتع بقوة اقتصادية ولوجستية وعسكرية كبيرة، ممثلة حلف الناتو على حدودنا الشمالية، ومصالح الاتحاد الأوروبي عبر خطوط الترانزيت التجاري والبترول والتصنيع وشركات الإنشاء. إنها الطرف الإقليمي الوحيد الذي انفتح علينا وقدم لنا المساعدة كما ربح منا ما شاء، حتى أن القمة العربية في بغداد كانت بتنظيم تركي ولولاها لصرنا "فضيحة بجلاجل" كما يقول أهل الزمالك.ولاعتبارات مشابهة فإن القيادات الكردية في العراق حاولت تجاوز تاريخها المؤلم مع تركيا المعارض الأساسي عبر التاريخ لنفوذ القومية الكردية، وراحت تقيم شراكة عميقة مع أنقرة، وتحاول تأسيس علاقة حديثة استنادا لمنطق البزنس وشبكة المصالح التي يسير عليها كل العالم المتمدن.ولاعتبارات مشابهة كذلك نجد أن إيران حريصة على الفصل بين خلافاتها العميقة مع أنقرة، ومصالحها الاقتصادية، وقد توصلت مع الأتراك إلى معادلة متوازنة رضيت بها واشنطن نفسها.لكن العلاقة مع الأتراك، الجار المفيد الوحيد في الوقت الراهن، تتعرض إلى اختبار عسير. قبل شهور لجأ إليهم طارق الهاشمي، فخرج أنصار رئيس حكومتنا في مدن كثيرة وأحرقوا العلم التركي وطالبوا كحل سريع وثوري جدا، بقطع العلاقات معهم. لكن ثوريتهم هذه لم تعجب حتى السيد مقتدى الصدر الذي يفترض انه شيخ الراديكالية في بلادنا، فوصف إحراق العلم التركي بأنه "فعل أرعن". إلا أن الأمر متواصل كما يبدو ولا نعرف كيف ستنتهي هذه الحملة، فالسيد علي الشلاه يريد أن نقوم "بمعاقبة" أنقرة وقطع العلاقة معها نهائيا، وهو ومعه فريق واسع من أنصار رئيس حكومتنا، يشجعون على إنهاء العلاقة فورا مع سلطان اسطنبول، رغم انه الرجل الوحيد المفيد حاليا بين جيراننا.إنها موهبة رهيبة في خلق العداوات، تطرح استفهامات كبيرة على سياستنا الخارجية المتشظية، والتي لا يوجد طرف رسمي يقوم برسمها بقدر ما تخضع لميول الأحزاب وأمزجة قياداتنا الكثيرة والحكيمة.ولم أعرف بعد حقيقة خبر قرأته للتو يقول إن بغداد جمدت تسجيل الشركات التركية، وأتمنى أن يكون غير دقيق لأن هذا معناه تطور دراماتيكي في علاقتنا مع الجار الوحيد غير المعاق الذي قد يكون "تورط وانفتح علينا"، وربما سيتحول إلى "أمثولة" بين باقي جيراننا الذين سيشمتون به قريبا حين نعلن نحن الحرب عليه. أتخيل بعض جيراننا يهمسون في أذن أردوغان: شورطك مع العراقيين؟ لماذا تماديت وعمقت الأواصر؟حسابات المصالح والاختناق الإقليمي الذي نعيشه، وتوتر حالنا مع معظم الجيران، ومع العديد من البلدان الشقراء والسوداء، وامتلاكنا سجلاً مثقلاً بالخسارات، هي جملة أسباب ينبغي أن تجعلنا نقوم بتعريف العلاقة مع تركيا من جديد، بنحو تكون أكبر من أزمة طارق الهاشمي، وأي أزمة أخرى.مشاكلنا مع تركيا لن يجري حلها إلا في ظل علاقات طبيعية خالية من الاستفزاز. أما قطع العلاقة معها أو مع سواها، فسيضخم تلك المشاكل، وقد يستنزف قدراتنا المحدودة نحن المصابين بالدوار أساساً.قد يحسن بالسيد الهاشمي أن يترك لنا تركيا، ويذهب إلى دولة أخرى علاقتنا بها "خربانة من الأساس" تقديرا منه للمصلحة الوطنية، وتجنيبا لأهله في العراق طوق عزلة متكامل. فبخراب الموقف مع أنقرة سنكون قد أحكمنا شريط "العلاقات الخربانة" حول عنق عراق مخنوق لا يزال العالم متشككاً في مصيره ومستقبله، ولا تزال حظوظه وأحلامه عالقة في أزمات سلاطين يحبون "القرارات الثورية" ربما لأنهم أحزاب ثورية فشلت في إنجاح أي ثورة!
عالم آخر: اترك لنا تركيا يا سيد طارق
نشر في: 12 سبتمبر, 2012: 09:19 م