في عام 193. و في جامعة كامبردج، حضر سبراحمانيان شاندراسيخار درساً في الميكانيك الكمية لبول ديراك الذي كان آنذاك في الثامنة و العشرين من العمر. بعد ثلاث سنوات من ذلك أصبح ديراك أصغر عالم نظريات ينال جائزة نوبل للفيزياء في ذلك الوقت.
بعد ذلك بخمسين عاما ً، صار شاندراسيخار واحداً من علماء النظريات القدامى. يصف شاندراسيخار ديراك بانه "ذلك الشخص النحيل الوديع (من الجمعية الملكية) الذي يسير متخفياً بجوار الجدار (كاللصوص!) و لم يكن بصحة جيدة". و رغم ان ديراك كان يعيد المادة من كتابه المنهجي،المنشور حديثاً حينها، كلمةً بكلمة، فقد كان الدرس الذي حضره شاندراسيخار لأربع مرات مثل قطعة موسيقية يود المرء سماعها مرةً تلو الأخرى". ان ديراك هو الشخصية الرئيسية في آلاف الحكايات الفكاهية التي تروى بين الفيزيائيين، بسبب اسلوبه المختصر ذي الكلمة الواحدة في الحديث، و بساطة و صلابة تطبيق المنطق في كل شيء. ان الاستماع الى إحدى قصص ديراك يشبه التسلًل الى عالم آخر. يقرأ ديراك " الجريمة و العقاب " فيقول بأنها " لطيفة "، لكنه يكتب قائلا بأن الشمس تشرق مرتين باليوم في مكان واحد ; يتناول ديراك عشاءه بصمت حتى يسأله صاحبه " هل ذهبت الى المسرح أو السينما هذا الاسبوع؟" فيجيب " لماذا تريد ان تعرف؟". كان كتابه فريداً مثل مهاراته الاجتماعية. ذكر فريمان دايسون – الذي حضر دروساً لديراك في سن مبكرة عندما كان في التاسعة عشرة من عمره – بأن الكتب العظيمة التي ألّفها رواد الميكانيك الكمية " كانت بالية و غير متقنة بالنسبة الى كتب ديراك "، و ان اكتشافات ديراك " تشبه تماثيل أنيقة من المرمر تتساقط من السماء الواحد تلو الآخر ". كان ديراك قادراً على استحضار قوانين الطبيعة من فكر نقي لا يشوبه شيء (خاصةً و ان ديراك قد تكهّن بوجود ضديد المادة عام 1928 لأن معادلته الالكترونية النسبية التي اكتشفها حينذاك كانت تحتاج الى ذلك). هذا النقاء هو الذي جعله فريداً". في عام 199. وضع هيلج كراغ كتاب " ديراك: سيرة علمية "، و هو من الكتب المرجعية القيّمة التي تتعلق بالفيزياء و فيها القليل من سيرة ديراك و قصصه ذات النكهة اللذيذة، في فصل بعنوان " الروح الأكثر نقاءً ". ماذا بقي الى جانب الميكانيك الكمية و الحكايات الممتعة التي تحفل بها حياة هذا العالم الفيزيائي العظيم المستقل بفكره. ان عنوان كتاب " الروح الأكثر نقاءً "و المقصود به ديراك مأخوذ من نيلز بور، مثل عنوان كتاب غراهام فارميلو. يقول بور (" ان ديراك هو أغرب الرجال الذين زاروني في المعهد "). لكن النقاء و الغرابة هما ليس كل شيء. يعرض كتاب فارميلو صورةً لرجل لامع، غريب عند النظر اليه من الخارج ; كما ان الكتاب هو لوحة مزخرفة تعرض ملامحه الداخلية. يقدم لنا فارميلو – كباحث أقدم في المتحف العلمي في لندن – نسيجاً من حياة ديراك التي قضى معظمها خارج البيت ; من نزهاته الطويلة أيام الآحاد عندما كان شاباً و التي كان يبدو فيها مثل " عريس في صورة زفاف ايطالية " مرتدياً بدلةً لم يغيرها طوال الاسبوع، و يداه ممسكتان ببعض وراء ظهره، و قدماه منفرجتان للخارج اثناء تجواله في الريف بخطوات إيقاعية " ; الى سفرات التجديف بالقارب في اواخر حياته مع ليوبولد هالبرن – و هو عالم فيزياء اكثر منه غرابةً – عبر غابات السافراس و أشجار الزان الاميركية التي تزينها الأشنة الاسبانية. نادراً ما كانت التماسيح تطلق أصواتاً: السكون مطبق لا يعكره الاّ صوت لقلقة المجداف المتواترة و صوت عقاب البحر الدوّار و جلجلة الريح عبر ثغرات الشاطىء في الغابة". (بعد الغداء كانا يسبحان ثم يجدفان عائدين، و نادراً ما كانا يتبادلان الحديث). نحن نتابع ديراك منذ طفولته الهزيلة القاسية في بريستول (حيث يبعد بمسافة قليلة عن آرتشي ليتش – الذي يصغره بسنتين – و عن كاري غرانت)، منذ اكتشافه معنى سعادة العائلة، لدى زيارته عائلة بور في كوبنهاكن و هو لايزال ببدلته ذات القطع الثلاثة، و اهتمامه ببناته كوالد ; حتى وفاته في فلوريدا عام 1984. في إحدى مقدماته، يصف فارميلو زيارةً الى ديراك العجوز قام بها زميله عالم الأحياء كورت هوفر. من خلال هوفر نرى ان ديراك يتحول فجأةً من اسلوب الكلام الموجز ليتحدث على مدى ساعتين و بحماسة كبيرة عن والده الفظيع. لقد قرر المؤلف ان يحافظ على حكاية رواها ديراك عن طفولته بمعزل عن بقية الكتاب، و تنتهي بأفكار هوفر الذي يقول: " لا اعرف حياةً مخيفة مثل حياة ديراك "ظل هوفر يسأل نفسه مراراً: هل من الممكن ان يكون ديراك، ذو الفكر النقي نقاء الحاسوب، مبالغاً؟" لماذا كان بول يشعر بالمرارة مع والده؟" ان التضارب بين هذه المقدمة (التي تعطي سبباً كافياً لديراك كي يشعر بالمرارة من والده) و بين الحياة الدافئة للعائلة، كما تظهر في الفصل الاول، يلقي توتراً على بقية الكتاب
أكثر الرجال غرابة
نشر في: 20 أكتوبر, 2009: 06:33 م