احمد المهناعلى مدى سنين طويلة أغرمت بقصيدة كتبها فوزي كريم عام 1972عنوانها "حسين مردان". وبقيت منذ ذلك الوقت أحفظ وأردد بعضا من مقاطعها. وهناك بيتان منها، على الأقل، علقا بذاكرتي تعلقا فوق العادة. فلم استطع نسيانهما كما لا يستطيع المرء نسيان اسمه. والاسم لصقة باقية يفقد صاحبه الاحساس به على مر الزمن. ولكن لصقة "المعنى الشعري" في خَلَد الانسان من نوع آخر. انها جديدة على الدوام، تبث فيك كل مرة شعورا مميزا. وهذه الجدة الدائمة هي ماركة الشعر الخالد.
rnفي البيتين المقصودَين يرصد الشاعر احد ملامح حسين مردان. ملمح بسيط وهو أنه كان يبدو كارها لبغداد عندما يكون فيها ولكن روحه تطلع ما أن يغادرها الى الخارج:rn" كان يكره بغدادَ،rnلكنه حين يستودِعُ الله فيها يموتْ".rnفي هذين البيتين، كما في القصيدة كلها، بساطة آسرة ولكنها خادعة. عندما يهدأ البحر، وتنساب حركة مياهه ساكنة مستقيمة، يبدو كيانا بسيطا، من دون تعقيد او عمق أو غنى. ان بساطته آسرة. فلاشيء أكثر إمتاعا من مشهد مياه صامتة بلا ضفاف وهي تجري على مد البصر. وكذلك تبدو القصيدة عامة وهذان البيتان خاصة. ولكن لا البيتين السلسين ولا البحر الهادىء هما فقط تلك البساطة. فالبحر عالم من الألوان والكائنات والأشياء والأحوال. وهو بسيط وآسر في صمته ووضوحه. عميق ومثير في كلامه وغموضه. وكذلك يبدو لي معنى البيتين.rnان في القصيدة امواجا أعمق وأشد، وأصواتا أوقع وأعذب من هذين البيتين. فلماذا اذن علقا عندي أكثر من ابيات القصيدة الأخرى؟ لابد انه الذوق ونوع الاهتمام وطبيعة المتلقي. وبالنسبة الي أظن أن "معناهما" يشدني لأنه باعتقادي يضيء ويكثف ملمحا عميقا من ملامح الشخصية العراقية. وهو ان العراقي عموما، لا حسين مردان وحده، شخص كاره وعاشق لبلده في آن واحد معا. وان هذا الهوى المتعارض يملي نفسه على ضحاياه، نحن العراقيين، بطريقة قدرية. فلا أحد يقرر أو يختار بإرادته ان يكون ممزقا بين نقيضين لا يلتقيان. لا أحد يرغب في أن يكون منشقا أو منقسما على نفسه.rnان الوطن بالنسبة الى أي انسان هو محيطه الطبيعي. وهو منشد اليه أكثر من انشداد بقية الكائنات الى محيطاتها الطبيعية، بفعل "الروح" التي يمتاز بها الانسان. وهذه الروح هي صناعة مجتمع بعينه وطبيعة بذاتها. وهي عرضة الى فقدان التوازن، والى أعمق مشاعر الفقدان، حين تغترب عن محيطها، أو عن بلدها. والعراقي قد يستوي بذلك مع غيره حين يكون خارج أرضه. انه عاشق من الخارج، لأنه كالوطن نفسه "غريب" عن الخارج. ولكن العراقي في الخارج قد يبز سواه في حب بلده واختلال شخصه، لأن الصحارى والجبال أبعدته عن البلدان الأخرى، وصعَّبت عليه طوال التاريخ الإتصالات والأسفار، ووضعته في عزلة أرهفت مشاعره تجاه الغربة.rnأما في الداخل فانه ليس على وفاق، يعيش من دون انسجام، تضطرب مشاعره وتحتدم تناقضاته الى درجة كره الوطن. ولعل أسباب ذلك تعود الى سيرة قرون من الإذلال، ضاعت فيها قيمة الفرد، وقل الاحترام، وكثر الخوف وعدم الاطمئنان على المصير، مع بؤس الولاة وتحول البلد الى أحد افقر أنحاء العالم طوال العصر العثماني. ومن هذه "المادة" تكونت دولة العراق الحديثة، وانبثقت سيرة الشعب، وقامت السلطات، واختلفت في المظهر وتشابهت في الجوهر.rnوهكذا فإن حسين مردان لم يكن في كرهه وحبه متفردا، وإن كان كذلك في احتجاجه، في سيرته وأدبه، في رمزيته المتألقة فوق حكم القدر، وفي اسطورته التي أحياها فوزي كريم بقصيدة لا تُمَل. rnrn
أحاديث شفوية:من لا يكره بغداد؟
نشر في: 18 سبتمبر, 2012: 09:23 م