سرمد الطائياريد ان اختم هذا الاسبوع بحكاية عن طريقة حل الخلافات العلمانية الاسلامية ابتكرتها بنات ايرانيات من مدينة سمنان، وشهادة من موظف رفيع عن حال الاستشارات الاجنبية في وزاراتنا ارسلها لي تعقيبا على مقال سابق بشأن ضرورة الحصول على استشارة و"وصاية متحضرة" لتصحيح سياسات التنمية لدى سلاطين العراق.
التيار الديني ونظيره العلماني في ايران فشلا في التوصل الى حل لخلافاتهما الثقافية بعد 200 عام من ظهور الثقافة الحديثة في بلاد فارس. اوائل الايرانيين المتعلمين في الغرب حملوا اسم "منور الفكرة ها" اي اصحاب الافكار النيرة، لكن هذا المصطلح تحول الى شتيمة منتصف القرن العشرين واصبح من قبيل "المنحرفين فكريا"، وكانت بداية لتعقيد المشاكل بين الحاصلين على تعليم حديث، والدارسين للعلوم التقليدية، وبدل ان يقوم "الدهاء الفارسي" بإيجاد حل لطريقتين في الفهم واسلوبين في الحياة، انتج لنا نخبة ثورية تقمع الجميع.ومن تداعيات النزاع الذي استمر 200 سنة، ان 3 فتيات في مدينة سمنان الايرانية، قمن بالاعتداء بالضرب على رجل دين طلب منهن "الاحتشام". وتقول وكالة مهر شبه الرسمية ان رجل الدين الراقد في مستشفى ويعاني من رضوض واصابات، اكتشف بعد فوات الاوان انه يتعامل مع بنات تدربن على الفنون القتالية، وبدل ان يجري بينهما حوار هادئ تحول الامر الى ميدان كاراتيه للانثى ضد الرجل.الحادثة النادرة هذه مؤلمة حقا، ومثلها في جعلي اتأسف، ان ارى الاسلاميين والعلمانيين في العراق يتسابقون الى ابتكار الشتائم المتبادلة بمجرد ان ينشب خلاف. وقد اضطررت اكثر من مرة الى التدخل لفض هذه النزاعات على فيسبوك وتويتر، بين المعلقين الذي يتلاعنون على صفحتي الشخصية. ادرك ان في داخل كل منهم انسانا طيبا ينتمي لمعتقده بصدق، لكنني مستاء من وصول الامر الى مرحلة الاحتراب اللفظي الذي قد يصل الى احتكاك فيزيائي كما حصل في احد ازقة سمنان حين شعرت البنات الايرانيات بالاهانة من رجل دين طلب منهن تغطية اجزاء من رؤوسهن. تدخل الرجل الراقد في المشفى حاليا لم يكن مناسبا، ولا رد فعل البنات كذلك، خاصة وانه يأتي بعد قرنين على السجال بين "منور الفكرة ها" وطبقة رجال الدين. انه غياب مؤسف للاعتدال بين الطرفين، وتصاعد للغة الاحتراب والتكفير في مجتمعنا العالق بين الماضي والمستقبل منذ عقود.اما الموظف الرفيع في احدى وزاراتنا، فهو يسرد لي كيف كان المستشارون الاجانب يساعدون العراقيين على بناء بلد من العدم تقريبا منذ القرن 19 اواخر العهد العثماني وخلال العهد الملكي وجاؤوا لنا بأحدث التقنيات. وكيف انتج الامر تنمية معقولة الى جانب تحف معمارية تحتفي بها مدننا، من المحطة العالمية لقطارات بغداد حتى شركة موانئ البصرة، وسواهما. لكنه يحكي بألم كيف اصبحت الاستشارات الاجنبية اليوم منبوذة ومحاربة في عراق القرن 21.روايته تقول ان خبيرا من بلد اوروبي مهم حصل على عقد تصميم لبعض البنى التحتية في العراق، وخلال بضعة شهور جاء بخرائط ومعدات ومواصفات صديقة للبيئة وبكلفة منخفضة، وتعمل بتكنولوجيا حديثة جدا مثل نظيراتها في الدول المتقدمة.المفارقة بدأت حين رفض كبار المسؤولين في الدائرة المعنية العام الماضي، تلك المخططات، لانها معقدة وتدار بتكنولوجيا حديثة، وتحتاج تدريبا للكادر المتوفر، وطلبوا منه ان يقدم تصميما جديدا مثل تلك التي تعامل معها العراق في العقود الماضية. المستشار الاوروبي علق على هذا الطلب بأن الحكومة العراقية تريد ان تبني في القرن 21، مشاريع تنتمي للتاريخ وخارجة عن الخدمة. لان التصميم الذي طلبه المسؤول العراقي بات يدرس في الأكاديميات كتاريخ في علم الهندسة حاله حال اهرامات المايا وزقورات اور. سلم امره الى الله وقدم لنا خرائط عتيقة (ودار وجهه ورجع لبلاده)، بينما كان المفروض ان يكون هذا التعاون مناسبة لتطوير قابليات كوادرنا وتدريبهم على تشغيل المنشآت الحديثة المدارة بنظم تقنية متطورة.وهكذا وبعد 200 عام على دخول الهندسة الحديثة الى العراق، نعود ادراجنا لننفذ مشاريع خارجة عن الخدمة. كما اننا وبعد قرنين من السجال بين الحداثة والدين، لم نكتشف طريقة للتعايش وتسوية الخلافات سوى "لعب الكاراتيه"، فمرة يلعب الاسلاميون الكاراتيه معنا في نادي الصيادلة، ومرة نلعب معهم التايكواندو قرب اصفهان، وسط تصاعد للهجة التشدد وغياب مؤسف للوجوه المعتدلة من الطرفين. انها نهاية مؤسفة لمحاولات عمرها 200 عام بهدف الدخول الى العصر الحديث.
عالم آخر: بنات إيران ومستشار أوروبي للعراق
نشر في: 19 سبتمبر, 2012: 08:32 م