شاكر لعيبيترجمة الشعر هي تمرين على الشعر نفسه. هي تجربة التماهي مع شاعر آخر بطريقة إشكالية لا تستطيع أن تفقد بها، مع ذلك، روحك، ولا أسلوبك ولا خياراتك اللغوية. إنها تأويل. إنها اجتهاد.
كتبتُ ذات مرة دراسة مطوّلة تتمحور حول وجود "وعي أصوليّ" لدى بعض مترجمي الشعر العرب الذاهبين عملياً إلى الاعتقاد بالترجمة الحرفية للنصوص، حتى وإنْ زعموا لفظياً خلاف ذلك. عبَّرتْ تلك المقارَبة مع الأصولية عن الاستياء والريبة من الذين يرفضون "الاجتهاد" ويظلّون يصرون مثل الأصوليين على فهم حرفيّ للنص الأصليّ، كلمة مقابل كلمة، بل كلمتهم هم قبل غيرها من الكلمات. اقتراح المقارَبة بالأصولية مشتق أيضاً من التراث كما هو واضح. لقد جلب انتباهي للمشكلة الإشارات الكثيرة، الخفية والصريحة، لأولئك الذين يعتقدون بأنهم هم الوحيدون الجديرون بنقل الشعر الأجنبي إلى العربية ومنها. وإذا ما اعتقد جماعة بن لادن مثلاً أنهم الوحيدون في العالم الإسلامي من يمتلك التفسير الصحيح الوحيد للنص القرآنيّ والسنة، فإن بعض مترجمي الشعر العرب "يكفِّرون" بدورهم، وحسب النسق السلفيّ عينه تماماُ، ما سواهم من المترجمين، كأنهم يمتلكون خبرة لغوية معاشة مع اللغة الفرنسية مثلاً، تختلف عن خبرة غيرهم في المغرب أو مالي أو كندا، وكأنهم يعودون لقواميس ومرجعيات معجمية مغايرة لمرجعيات الفرنسية الشهيرة، "لاروس" و"بتي روبير" الصغيرة والكبيرة. التكفير يذهب أحياناً إلى أقصى مدياته، كما قرأنا جميعاً هنا وهناك، وبأقسى العبارات المؤسفة. يجوز السجال بالطبع عن دقة الترجمات شريطة امتلاك المحبة والتقدير المتبادل اللائق وبتثمين الفعل الثقافيّ لجهود الآخرين. وهو ما لم نشهده في بعض أمثلة السجالات "التكفيرية" المعروفة عن الترجمات الشعرية خاصة، وليس الروائية، وهذا أمر يستحق التوقف لأنه دليل على تصوُّر متعالٍ لم يُعالَج نقدياً بعد. علينا استثناء البعض بالأسماء، وأولهم صلاح نيازي الذي يحافظ على مسافة تقديرٍ واحترامٍ مع مَنْ يُعالج ترجماتهم. يعترف "الأصوليون الجدد" نظرياً بالتأويل جوهراً للترجمة، لكن لا يعترفون عملياً إلا بأنفسهم كمؤوِّلين للنصوص. هنا إفراطٌ وعدم محبة للعالم ولأقرانهم وقرائهم. في المقارَبة بين تلك السجالات والوعي الأصوليّ الشقيّ استشهدتُ بأربع ترجمات متوالية زمنياً لقصيدة أدغار ألن بو "الغراب" إلى اللغة الفرنسية، اثنتان منها على يد شاعرين من كبار شعراء الفرنسية، واستنتجتُ أن المقدار الذي يذهب فيه تأويل تلك الترجمات للبيت الأول وحده من قصيدة بو، كان يمكن أن يدفع "بتكفيريينا" إلى أشدّ الفتاوى تطرّفاُ، وهو ما لا يحدث في الثقافة الفرنسية إلا نادراً، لأنها تُدرك المغزى العميق لعملية التأويل وتسمح بفسحة كبيرة من الحرية لخيار المترجِم، وليس قبول الجهل باسمها. الخيار الشخصيّ الحرّ غائب كبير في حقل الترجمة العربية أيضاً ولذلك أسباب مرجعية سوسيولوجية معروفة. أما الحديث عن "شعرية الترجمة" فيبدو في ثقافتنا محض عبارة عريضة معقولة أو فكرة ممنوحة لنخبةٍ محصورة بين مزدوجين فحسب، مع اعتراف أصوليي الترجمة الجدد، بالجوهر التأويليّ شريطة أن تقنعهم، هم قبل غيرهم، معارفنا الدقيقة بخفايا اللغة المنقول عنها، كأنهم يقصرونها على أنفسهم وجماعة مختارة أخرى. وهنا يتجلى مرة أخرى "الوعي الأصوليّ" الذي يزعم معرفته وحده و"جماعته" بخفايا النصوص. نعرف الفارق في الفقه الإسلاميّ بين "الاجتهاد" و"القياس". نحن ميّالون، إزاء عملية الترجمة، إلى الاجتهاد، حتى لو وقع خلاله خطأ عرضيّ لا يسلم كائن فانٍ منه، بينما يبحث الأصوليون عن معايير القياس الصارم، قياسهم.مناسبة انتباهنا مجدّداً لهذه الفكرة، هو وصول ترجمة الشاعر المصري رفعت سلام لأعمال رامبو الكاملة، محض مصادفة، بعدما اعتقدنا أنها لن تصل إلا بعد وقت طويل بسبب مكان إقامتنا الحالي. إننا نقدّر هذا العمل، مثلما قدَّرنا وثمّنا ترجمات "الأصوليين الجدد" أنفسهم بل سامحنا بصدق من انتقد أعمالنا بقسوة، لأن في هذا الموقف احتراماً للاجتهاد وتقديراً للسهر على اقتناص الغوامض والشوارد وظلال النص الأصليّ الهاربة، لديهم جميعاً، حتى لو دفع جموح وتعصّب البعض منهم إلى ظلم الآخر. عمل رفعت يستحق التقدير والقراءة، لأنه ينحني على شعر صعب، ويعيد الكرَّة مجرِّباً قدرته البشرية الذاتية، الكبيرة أيضاً، وهو يواجه مخيلة ولغة شاعر استثنائيّ.
تلويحة المدى: ترجمة الشعرهي تمرين ذاتيّ على الشعر نفسه
نشر في: 21 سبتمبر, 2012: 06:32 م