مزهر جاسم الساعديفي عام 1980 أعلن القائمون على المشروع التربوي في أمريكا عن الخطر الذي يداهم مستقبل التربية في بلادهم وقالوا بشكل صريح إننا (أمة في خطر) ،وما يحسب لهذه الصرخة أنها كانت كاشفة عن نظرة مستقبلية لمسار العملية التربوية فضلا عن الشجاعة التي تمتع بها من تحدث عن هذه الحقيقة باعتبارها جاءت في وقت تعد فيه المدارس الأمريكية أنموذجا للتقدم الذي تطمح العديد من الدول للوصول إلى المعايير التربوية المتبعة فيها.
لهذا بدأت الجهات المختصة من داخل وخارج المؤسسة التربوية مشروع المراجعة العامة ووضعت المعايير التي تتناسب والمرحلة المقبلة من حياة الأمريكيين ،وقد نجحت في ذلك لأنها انطلقت من تشخيص علمي دقيق ابتعد عن التبرير ومقولات المنجز المزعوم والموهوم.كل الدول التي تتطلع إلى مستقبل أفضل لأبنائها تفعل ذلك ،وليس في أمريكا وحدها ،لا تتردد في مراجعة مشروعها التربوي وبيان أخطائه والهفوات التي وقع فيها حرصا منها على بناء عقلية الطفل باعتباره الباني لذلك المستقبل بما يتناسب ويتلاءم وتنمية قدراته ومهاراته . وإذا لم تتوافر على الخبرات والقدرات والكفاءات للقيام بتلك المهمة فإنها لا تتردد في استقدام المختصين والاستعانة بهم كي تمضي عملية المراجعة بشكلها الحقيقي المطلوب.إنها تفعل ذلك بشجاعة سوى في العراق، فإننا دوما نصرح بالتقدم والنمو الحاصل في القطاع التربوي وان كل سنة تمر هي أفضل من السنة التي سبقتها وكأن المسؤول العراقي قد برمج لغته على هذا الادعاء ، بل انه يذهب بعيدا حين يعدد في كل سنة المنجزات التي تحققت على يديه ولا يدري أن الأمور تتجه نحو الكارثة .إن جميع المؤشرات والمعطيات على الأرض تدل على ذلك ،فالهرم التقليدي لأولويات الوزارة ما يزال من دون تغيير فإنه قائم منذ أكثر من نصف قرن على الابتداء بالمدينة ومن ثم المناطق البعيدة وبعدها تأتي المناطق النائية ، وكأن حق التعليم في المدينة مقدم على حق التعليم في القرى والأرياف بل هو الأصل في عمل الوزارة ، وبذلك فإن التربية في العراق أسهمت وتسهم الآن من حيث تدري أو لا تدري في تعطيل عملية بناء مجتمع الدولة فضلا عن الزيادة الملحوظة للفوارق الثقافية والمعرفية لأجيال مضت وأجيال قادمة.لقد عمدت التربية في العراق على بناء أنواع مختلفة وغير متجانسة من الثقافات طبعت علاقة أبنائه عبر قرون ومازالت.لا أدري أي تقدم يدعيه القائمون على المشروع التربوي في العراق وهم يعلمون أن تلاميذ المناطق النائية لن يتخطوا المرحلة الابتدائية إلا بشق الأنفس وان عدد المدارس بالدوام الثلاثي ازداد أضعافا مضاعفة نتيجة السياسة الخاطئة وغير المدروسة لعمليات الهدم المستمر للبنايات المدرسية من دون تعويض بداعي القدم ،والمعروف في الأوساط التربوية أن الدوام الثلاثي لا يشبع فضول التلميذ في الجوانب الحركية والجوانب العلمية فضلا عن الجوانب التربوية.والغريب أن الوزارة تعامل تلاميذ وطلبة المدارس الثلاثية والمدارس النائية بذات المعايير التي تتعامل بها مع المدارس ذات الدوام الأحادي من حيث معدلات النجاح في حال تنافسهم للقبول في مدارس المتميزين أو الجامعات العراقية.إن الهُجنة الواضحة في الموضوعات المبثوثة في ثنايا الكتاب المدرسي أثبتت للمختصين أنها السبب الرئيس لمظاهر الفساد السياسي والاجتماعي ،بكونها لا تحمل هما عراقيا يتعلم منه التلميذ الانتماء لوطنه وهويته ، فليس من الغريب أن تجد في أحد كتب القراءة للمرحلة الابتدائية أربع قصائد لشاعر عربي واحد من دون ذكر لشاعر عراقي بأقل من ذلك العدد ،.وأن كتب القراءة للمرحلة الابتدائية بصفوفها الست تخلو موضوعاتها من تعليم التلميذ على مفهوم التسامح وكيفية ممارسته وإشاعته سلوكا باعتباره قيمة عليا تجعل المجتمع أكثر تماسكا وأكثر تصالحا مع نفسه ،فإنها في جميع موضوعاتها خلت من هذه المفردة ولم ترد سوى مرة واحدة في كتاب الصف الخامس ،فضلا عن ذلك فإن البعد الزمني المفضل في هذا الكتاب يشير إلى أن الماضي هو المسيطر بنسب مرتفعة على الحاضر والمستقبل، فقد بلغت نسبته 68,96% .أما في الصف السادس فقد بلغت نسبته 75%. والأغرب إننا مازلنا إلى يومنا هذا نمارس في بعض مناطقنا تدريس بعض المواد بطريقتين ،الأولى للامتحان والثانية لتركيز المعلومة في ذهن التلميذ والطالب كما في مادتي التاريخ والإسلامية.أليست هذه القيم التي يتربى عليها التلميذ في المدرسة الابتدائية هي التي تتحكم بسلوكه وهو مسؤول في الدولة ،لذلك تراه يجترّ منجزات أجداده العظماء من دون أن يفعل مثلهم ؟لا أدري عن أي تقدم تتحدث الوزارة وأن مدارس الأرياف في العهد الملكي كانت مشمولة بكسوة الشتاء وبالتغذية الصحية وأن مدارسنا مازالت تصمم بخمسة أو ستة مقاعد صحية لتستوعب مئات التلاميذ لقضاء حاجتهم أثناء الاستراحة بين الدروس.فضلا عن نسيان التغذية وعدم التفكير فيها.و أن كبار مسؤوليها يحنون إلى بنايات الثانويات والمدارس الابتدائية التي بنيت قبل أكثر من نصف قرن ،بل أنهم يسهبون في وصف مزاياها ويثنون على من شيدها وكيف كانوا يمارسون الرياضة في ساحاتها ويتبارون في خطبهم وقصائدهم ومعارضهم الفنية على مسارحها وقاعاتها .هل فكرت الوزارة بإجراء بحث ميداني يكشف عن مدى فهم
أمّة فـي خطر
نشر في: 23 سبتمبر, 2012: 06:18 م