سرمد الطائيقبل ايام مرت امامي بيك اب محملة بتمور بعض مدن العراق، وقرأت تصريحا لوزير يتحدث فيه عن "مؤامرة" تتعرض لها تمورنا، والبارحة وجدت نفسي في دكان يعرض 10 انواع من التمر العراقي دفعة واحدة. اما في البيت فقد انشغلت مع العائلة بمراجعة وصفة قديمة لتتبيل التمر بالبهارات والزنجبيل لصناعة "معسل التمر" البصراوي (وهو اقل شهرة بكثير من معسل التبغ طبعا).
rnوالحقيقة ان هذا الوقت من السنة يشهد عمليات جني لاكثر من محصول عراقي مزروع بطريقة بدائية تحافظ على نكهة الطبيعة العتيقة ولا تعبث به كيميائيا او عبر التعديل الوراثي والجيني. فقد شربنا عصير رمان من كربلاء، ورأينا ليمونا من ديالى، وأشياء اخرى بدائية وهائلة يحدثني عنها البائع بفخر رغم ان "الفصل العراقي" ينتهي بسرعة لان المحاصيل محدودة الكمية، فقد زاد عدد الشعب وتناقصت مساحات البساتين، وصار كل شيء لا يكفي.rnوحين راجعت الارشيف وجدت انني كتبت العام الماضي تحت عنوان "رائحة المنزل في تشرين" عن عمليات اعداد التمور وكبسها والتفنن في معالجتها وطهيها، ووجدتني اليوم في نهاية ايلول، مستغرقا في عهد طفولي قديم راح وصار من الماضي ولم يعد متاحا.rnوفي الماضي القريب كان والدي والعديد من رجال ونساء العائلة، لا يزالون ملتصقين بتقاليد القرون الماضية في التعامل مع النخلة بوصفها ثمرة مقدسة، محاطة بطقوس معقدة. البلح او (الخلال) الاصفر يظهر على العذوق بطعم مر بداية الصيف، لكن الناس يحتالون ويصنعون منه طبقا هائلا. يجري طبخه بالماء والدبس والعسل، ثم يقدم باردا حلوا مطبوخا بلونه الكستنائي.rnوحين ينضج تمرا، تخلطه الجدات بمزيج بهارات خاص لدى العطارين، فهذا شيء من الزنجبيل او (الجنجفيل) وتلك مكونات اخرى عديدة تخلط مع التمر الذي يظل منقوعا بالدبس وبخلطة البهارات ونكهتها، بضعة اسابيع في جرة فخارية او زجاجية، لتظهر فيما بعد على الموائد كأنها لوحة أنيقة من القرن 19.rnوهناك طقوس خاصة لكبس التمر في الصفائح او الاواني المصنوعة من السعف. انها وصفات عديدة لمعالجة ثمار النخلة تسمع عنها في كل المدن. وهذا طبيعي في ارض السواد التي عاش فيها اقدم زارعي النخيل، لكن غير الطبيعي هو ان تنحسر هذه الوصفات او ان تبقى حبيسة المنازل، لا اثر لها في سوق، ولا خبر يشفي الغليل عنها في مطبوع او مسموع او مرئي.rnلم نتعلم تسويق شيء، وحين قاربت تراثاتنا القليلة اصلا، على الانقراض، لم نتعلم انقاذ شيء، وسنظل نقول ان شناشيلنا وأنهارنا ومدننا الاثرية ووصفات التمر التي تعود للاجداد، ضحية مؤامرة من هذا الجار او ذلك الكارتل الاحتكاري، ونتفرج عليها تذوي وتتبدد.rnوعلى سبيل المثال فإن كل بلدان العالم تقيم مهرجانات تستغرق اسابيع احيانا، لمنتجاتها التراثية، ونقرأ كل يوم عن مهرجان للجبنة في فرنسا وآخر للكاكاو في سويسرا، ومثله للبيرة والنبيذ في امريكا اللاتينية، وواحد عن التمر في الامارات! لكننا لم نسمع يوما عن مهرجان يليق بجسامة الامر، لنخلتنا التاريخية المنقوشة على كل آثار بابل وسومر ولكش وأكد واريدو والوركاء، والحاضرة في منمنمات العصر العباسي والمغولي ومقامات الحريري وسواها وعداها وما على شاكلتها. واذا نظمنا فعالية لهذا فستكون بدائية ومتواضعة ولا تحظى باهتمام، فالجميع مشغول بدخان بنادق لا تنام.rnلم نكن أمناء على الريف الاخضر ومنتجاته وتقاليده، ففقدناه وتضاءل حجمه. ولم نكن امناء على الحواضر العامرة والضاربة في التاريخ، ففقدناها ايضا وحولنا المدينة الى "دجاجة حمقاء تجلس على جبل من القمامة" كما قال شاعر معروف عن بغداد قبل اعوام.rnوحين نخسر الريف والمدينة، فسنكون اشبه بجماعات بشرية تستوطن في "مخيم لاجئين عملاق" فيه بترول لا ينشئ عمرانا وأنهار عظيمة لا تسقي بستانا. وقد يقوم مؤرخ افريقي او صيني، بعد ألف عام بالتنقيب عن آثار مخيم اللاجئين هذا ليجد بقايا مدن حواسم وعشوائيات، وبقايا حواجز كونكريتية يعجز عن تفسير ما نقش عليها من "انتصارات ومنجزات"، وبقايا مولدات اهلية وشهادات دراسية مزورة ومسودة لقانون البنى التحتية وكمية كبيرة من الكذب وعقود المقاولات الفاسدة، وأثار انهار وبساتين مندرسة، وقوائم بـ"سلالات المسؤولين" الذين قادونا من هزيمة الى اخرى.rnوحتى ذلك الحين ففي وسعي ان امتنع للحظة عن مشاهدة الخراب، وأنغمس في طقوس عائلية تمزج التمر بالزنجبيل، ليتخمر بالتوابل في جرة فخار سأشتريها اليوم من سوق قديم. انها وحسب رائحة العراق في تشرين!rnrn
عالم آخر :رائحة العراق في تشرين
نشر في: 23 سبتمبر, 2012: 10:04 م