د. مظهر محمد صالحلــم أبتعد في المسافة الفكرية بين ما كتبه الاقتصادي المصري المخضرم جلال أمين في واحدة من روائع كتاباته المنشورة مؤخرا في صحيفة الشروق المصرية والتي جاءت تحت عنوان ( التحدي الأكبر أمام أي رئيس مصري جديد ) .
أقول لـم أبتعد عنه في تفسيره ظاهرة التخلف الاقتصادي المقيدة بالازدواجية الاجتماعية وانقسام المجتمع كما ساقتها أدبيات التنمية في خمسينات القرن الماضي إلى قسمين كخصيصة من خصائص الدول المتخلفة وتبعثر التنمية الاقتصادية فيها ولاسيما النظر إلى مظاهر الحضارة الغربية وحجم الابتعاد أو الالتصاق بين فئات المجتمع الواحد والذي يفسره البعض إلى الاختلاف في النظرة إلى الدين في المجتمع ومحاولة تقسيمه بين علمانيين ملتصقين بالمركز الأوروبي أو الغربي سلوكا مميزا لهم وبين الملتصقين بحاجز الدين وانغلاق مريديه إلى الداخل . فالمجتمع كما يراه جلال أمين مازال منقسما بين فريقين انقساما رهيبا أسبغ مشكلات جمة على حياة الناس الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في تفسير الحرية والخبز والعدالة الاجتماعية وفي نوع الاتصال والتواصل بالمدنية الغربية . مهما قاله جلال أمين ، فإنه لم يبعدني كثيراً عن ذلك الحوار المُركز الذي استخلصته قبل أكثر من أربعة عقود ونيف من الزمن مع زميلي في الجامعة الذي كان ماركسيا من الطراز الأول ولكن ملتصق في صفوف شغيلة بلادي وفلاحيها وكسبتها في تلك الأيام الساخنة التي كان يعيشها العراق في أقوى عصوره (أدلجةً) ، في حين كُنت من أشد الملتصقين في الجانب الآخر من الخيال الأديولوجي للمادية التاريخية والحركات المجتمعية عبر الالتصاق بالمركز الغربي وخيال الفكر ومناخ الفلسفة الأوروبية في انقطاع رهيب عن تلك الجموع التي كان يتلصق بها زميلي ، في حين أن كلانا كان يمارس الازدواجية ولكن بنمطين مختلفين كما أشرنا . واللافت أن كلانا كان موحدا بنظرته في تفسير ظاهرة الازدواجية في مجتمعاتنا المشرقية على الرغم من أننا مستقطبون أيضا في معسكر الازدواجية الاجتماعية بطرق قـد يختلف فيها أحدنا عن الآخر سواء في الهوية القومية أو الطراز المذهبي أو غيرها من أنماط ضعف هذه البلاد وتفكك تجانسها .فبالقدر الذي التحمنا فيه نحن الاثنان في نسيج عابر للطوائف والقوميات والمذاهب ، إذ يلتصق صاحبي بقوى الشعب المنتج وأنا ألتصق تلقائياً بإشعاع الفكر الفلسفي الأوروبي في تفسير حركة التاريخ وتطور المجتمعات ، إلا أننا كنا متفقين بأن الرأسمالية في بلاد مابين النهرين هي الأخرى موحدة في معسكرها وعابرة للطوائف والقوميات تجمعها مصلحة واحدة هي تراكم رأس المال الذي يميل نحو الألفة والاتحاد حسب مركز المصلحة مع ممارسة الانعزال الشديد بالجزء الآخر من المجتمع مما يوفر استمرارا وتطورا في الازدواجية المجتمعية . وبعد أن انتهيت من زميلي وغادرنا معاً محاور لقائنا، اتجهت هذه المرة ( أنا ورأس المال) في الذوبان في بوتقة الالتصاق بالمركز الرأسمالي والفكر الغربي ولكن بطريقتين علمانيتين مختلفتين ، فهم بدون شك شلة من مالكي رأس المال التجاري الذي نسميه برأس المال (الكامبرادوري) ،وهي الظاهرة التي يلتصق فيها رأس المال الشرقي بالمركز الرأسمالي الغربي ويتجانس معه في المصلحة وينفصل عن حركته الاجتماعية لترسيخ حالة الازدواجية ، وأنا من جانبي غارق في خيال العلمانية وملتصق بآديولوجيا الصراع في المركز الأوروبي العريق الثقافة كي أنعزل عن حركتي المجتمعية بأنانية برجوازية خطيرة الميول ! وعلى الرغم من ذلك ، نجد أن الرأسمالية الشرقية الموحدة والمتجانسة في ما بينها والملتصقة بالمركز الغربي والمعزولة بأسيجة قوية وساخنة عن مجتمعاتها ضمن ظاهرة الازدواجية الاجتماعية ، نجدها تلتحم ببرود مع النصف الاجتماعي الآخر تارة وتمارس ميولاً دينية ومذهبية وقومية ساخنة وتنتزع ثوب علمانيتها وتنفصل عنه تارة أخرى في اغتراب خطير بمستوى لم يسبق لـه مثيل في حركة وجودها التاريخي، وحسب مركز مصلحتها وديمومة الانفصال بين الفريقين الاجتماعيين ، إذ أمست تلك الرأسمالية تمارس ازدواجية ديناميكية للتخفيف من غربتها مع المركز الأوروبي، كلما كانت في حاجة لتلتحم مع التناثرات الاقتصادية والاجتماعية في هوامش بلدانها ما يعزز وجودها وديمومتها والقدرة على الاستغلال ومصادرة الفائض الاقتصادي من جموع أنهكتها صراعاتها و هي ماتزال منغمسة في تفسير ظواهر الميتافيزقيا أو ماوراء الطبيعة . مازلنا نحن شعوب الشرق نعيش تصوراً مبهماً في انفصال المجتمع وازدواجيته بين فئة علمانية ملتصقة بالمراكز الغربية ومدنياتها تدّعي الانفتاح نحو الخارج وبين فئة دينية تعيش الدين في أفق الشرق المغلق ، وفي الأحوال كافة نجد في هذا التوصيف للازدواجية هو ابتداع أخذ يغلف مكنونات صراع الطبقات وتذويب الاستغلال في حاضنة افتراضية من حواضن البنيان الفوقي (كما يحلو للماديين التاريخيين تناوله ) لنسيان الصراع بين القوى المستغِلة والقوى المستغلّة . وإن من يريد أن يرتقي من القوى المسحوقة إلى مصاف القوى الساحقة ،ليلغي ازدواجيته الطبقية ،عليه أن يتخلى عن مكنوناته الدينية ويتمتع بعلمانية منقط
درامـا الشـرق: نقد جلال أمين في التنمية والازدواجية الاجتماعية
نشر في: 25 سبتمبر, 2012: 07:17 م