احمد المهناالمقاييس في كل مجال من المجالات تسهَّل الأحكام. نستطيع الحكم على القضاء في دولة ما بأنه عادل اذا كان مستقلا. أي لا يخضع لغير القانون الذي يعمل به، ولا يتأثر بحكومة أو برلمان أو رأي عام. وهكذا فان لكل مجال معيارا يحكم عليه بالجودة أو الرداءة، الخير أو الشر، التقدم أو التأخر، الصح أو الخطأ.
rn المعايير نسبية، أي متغيرة حسب الزمان واحيانا المكان. العبودية كانت في عصر ما مشروعة. اليوم فقدت مشروعيتها من دون عودة. ذلك أنها غدت مناقضة لمعيار أصبح مقدسا في الحياة الانسانية وهو الحرية. فكل انسانية غدت شرا في الحد الأقصى ونقصا في الحد الأدنى اذا لم تكن حرة. واذا طبقت معيار الديمقراطية، تطبيقا ميكانيكيا كما كان يقول الشيوعيون، على شخصية تاريخية مثل عبد الناصر، الذي صادفت أمس ذكرى رحيله الـ 42، فان الحكم لن يكون قطعا في صالحه. فالرجل اسقط حكما ديمقراطيا الى حد ما. rnبمقياس اليوم يمكن الحكم على عبد الناصر بأنه دكتاتور ونقطة على السطر. ذلك لأن الديمقراطية أصبحت صيغة الحكم الأكثر قبولا أو شرعية في العالم. لكن الديمقراطية لم تكن كذلك في مطلع الخمسينيات. كانت "الموضة"هي الأفكار الثورية أو الجذرية. وقد افتتح انقلاب ناصر عام 1952 "عصر الثورة" في العالم العربي والاسلامي. وأصبح مركز الجاذبية في هذا العالم. كما اصبح عبد الناصر نفسه رمز هذا المركز وتجسيده الشخصي. وهذا الرجل "صور" و"مضامين" عديدة، وليس "صورة" واحدة كما هي أحوال أشخاص مثل صدام أو القذافي أو بشار. فانك اذا اختزلت ايا من هؤلاء بصورة "السفَّاح" لن تجانب الحقيقة. وهو ما لم يكنه عبد الناصر. فقد كان مستبدا ولم يكن دمويا.rnعندما انكسرت قوة صدام في حرب 1991 اغتنم العراقيون الفرصة وثار أغلبيتهم عليه في انتفاضة تعد الأكبر من نوعها في تاريخ البلد والمنطقة. فقد شملت 14 من أصل 18 محافظة. وهذا عكس ما حدث في 5 حزيران، وهي أكبر هزيمة في تاريخ العرب الحديث، فقد خرج المصريون الى الشارع احتجاجا على اعلان عبد الناصر التنحي عن الحكم. وفي قمة الخرطوم التالية للهزيمة، قمة اللاءات الثلاثة للإعتراف والتفاوض والصلح، حمل سودانيون سيارته بالأيدي.rnيقول ديغول إن"الانتصارات أقل أهمية مما نظن. موريس ده ساكس لم يخسر معركة واحدة في حياته. ومع هذا فانه لا يستوي مع نابليون الذي انتهى منكسرا". لقد ظل ساكس المنتصر خامل الذكر لأنه لم "يعبِّر" عن شيء أصيل في روح فرنسا كما فعل نابليون المهزوم. كذلك هو عبد الناصر على نحو ما. انه "أيقظ" وعي العربي بعروبته التي كانت مهملة أو منسية. كان أول زعيم عربي يعبر صوته حدود بلده ويتجاوزها الى قلب فلاح في طنجة أو أمير في الرياض أو عامل في عدن أو طالب في الموصل.rnوعبد الناصر أشياء أخرى ايضا. ولكن مهما كانت عظمة هذه الأشياء فانها لا تعفينا من محاكمة جانبه المظلم وهو الاستبداد، السياسي والاقتصادي والإعلامي والتعليمي على نحو خاص، لأنه كان ليبراليا ومتنورا في جوانب أخرى. فهو في الدين والمجتمع والفنون والآداب "ربيع عربي". وفي غير هذه الجوانب هو ما يفترض أن يكون "الربيع العربي" قد ثار عليه. لكن يبقى التساؤل واجبا، من باب الاحتياط، عما اذا كان تقدم السياسة ممكنا مع تراجع المجتمع!rnrn
أحاديث شفوية :شيء عن ناصر
نشر في: 28 سبتمبر, 2012: 10:03 م