طالب عبد العزيزقبل أن ألتقيها في سيارة الأجرة (الأوباما)التي أقلتني إلى بغداد فأربيل لم أكن لأصدق بوجود امرأة عراقية يبكيها الحبُّ حدَّ انعقاد اللسان واحمرار العين وهطول الدمع،كانت (توتة) هكذا كانت تسمي نفسها قد امتنعت عن الطعام والشراب طوال الطريق الدولي الطويل بين بغداد والبصرة (500) كلم،بل أنها لم تغادر السيارة إلى دورة المياه،
rn حين توقفنا في بادية السماوة ،ظلت تبكي وتبكي بما لا يمكن وصفه،لكنها كلما بكيت أكثر صارت أجمل،أجمل ،امرأة في لكنتها شيء من كلام أهل الغربية ،الذين قدموا من سوريا المحترقة ، جاءت البصرة مستمتعة مع حبيبها بشط العرب والمكان المتغير،على الكورنيش،ربما كانت تنشد زمنا حدثوها عنه .لكني ولكي أرفع عن كاهلها بعضا من جبل الحزن الذي تحمله طلبتُ منها أن تقول شيئا عن سبب بكائها هذا فقالت أنما أبكي الصدق والوفاء والصداقة والعاطفة والحب.ثم أنها قالت أبكي صديقتي التي خانتني وسرقت مني حبيبي،يا ألله ،أفي العراق من يبكيه الحب والوفاء والصداقة ،وقد ظننت أن الناس خرجت منها إلى المقابر والطوائف؟rn لم أتوقف في بغداد طويلا فقد أخذت الطريق سريعا إلى أربيل وفي الظهيرة،لم تكن الشمس قاسية كثيرا،بلى كانت الريح شديدة،وغبار محلي صعد المباني الملونة العالية،لكن الأشجار تصدت للشمس والريح فكان الجو معقولا.ولكي أسد ما في بطني من جوع، دخلت المطعم القريب من الفندق حيث أقيم،ووسط حشد التأمل الذي شدّني، ودونما تردد، تدفع باب المطعم وتدخل،صبّيةٌ بعمر الجامعة،تتبعها زميلتها بزي بنات كلية ألطب،إحداهن شقراء جداً،تأخذان مقعديهما قبالة زبائن لا يعرفونهما،يطلبان طعامهما ويأكلان وسط حديث بالكردية، يدل على الحرية وقوة الشخصية والمقدرة على الحضور،لا احد من الحاضرين تلصص على جلستهما،لا أحد في الشارع عاب عليهما وجودهما بين مجموعة الرجال ،وكما لو أنهما في بيروت أو اسطنبول أو أي عاصمة من عواصم الدنيا الحرة،لم ألحظ سلوكا شائنا،لم أسمع كلمة بذيئة،الوقار والحشمة والرقي علامات تميز الحياة في أربيل التي كانت تسمى يوما معدان الكرد.rn في الليل،أخذني صديقي البصري الذي يستثمر في أربيل مشروعا كبيراً إلى ضاحية عينكاوة،وفي بار جميل المبنى،رحب الحديقة،أجلسنا النادل بين الأشجار،سألنا ما إذا كان بصحبتنا نساء أم لا ، كيما يختار لنا مكانا أفضل،أو أنه أراد أن يجلسنا في زاوية ما من الحديقة المحاطة بأنواع من الورد هي للأسر،تُشرفُ على المكان كله،لأن المطربة اللبنانية التي أعلنوا عنها الليلة ستغني أغاني بالعربية أولاً،وهكذا كانت الليلة واحدة من أجمل ما تمنيته منذ سنوات.rn طلبت خمرتي، نبيذاً أحمرَ لكن صديقي،وهو (صاحب الدعوة) قال:لا، (اشرب ويسكي،عرق تركي،أو بيرة ألمانية،هولندية) ودع النبيذ لليلة ثانية،فنزلت عند رغبته،فكانت بيرة هولندية يفوحُ الرَغَدُ والهناءةُ من زبدها،تُسرُّ عين صاحبها وتبهج قلبه،وتنقّي كليتيه. وبين الفينة والأخرى يقف النادل على منضدتنا باسما،مقترحا علينا نوعا من الطعام،حتى أن خِواننا ضاق بما فيه من المزات اللبنانية،التركية،والعراقية أيضا.ياه ... ما أطيب الفُقاع في بلاد الكرد،كان العربُ الأشرافُ والوضعاءُ من القرشيين والأمويين والعباسيين والذين تعثمنوا وتفرسوا،فتعثمنوا وتفرسوا ثانية وثالثة ورابعة إلى أن تقطعت دولتهم إربا إربا يشربونها في البصرة والكوفة وبغداد وسامراء وعقرقوف،ومن قبلهم كان العراقيون البائدون في بابل وسومر ونينوى يشربونها مع آلهتهم ونسائهم وجواريهم وأسرى حروبهم ومحظياتهم ترى ما الذي يجري عندنا في البصرة اليوم؟rn في الليل بعد عودتنا من البار البرح ذاك،ظننت بأنّا آخر العائدين من السكر،لكني فوجئت بان نزلاء ونزيلات بصريين وبصريات لمّا يعودوا بعد،قلت لعل التبضع من المُولات الواسعة الكثيرة أغراهم بالتأخير هذا، فكان ظني في غير محله، فقد عادوا،متعتعين،ضاحكين،مسرورين،فرحانين قلت: اللهم أدخل على أهلي في البصرة البهجة والفرح،وأحفظهم وأعدهم إلى أهليهم سالمين غانمين مسرورين،وفي صالة الفندق التي ضاقت بضحكهم وقفشاتهم لم أرَ بينهم من أساء،أو تجاوز،صاروا أرقَّ وأبهى وأجمل وأطيب حديثا ،وكانوا كرماء بينهم،متسامحين حد الغفران.تذكرت في سري بعض طبائع الخمرة التي كانت تتحفنا بها كتب العربية،والتي منها اللطف والرقة والعذوبة والسخاء والحب والنسيان والصفح لكن توتة ظلت شاخصة أمامي في مضجعي بغرفة الفندق،ظل الحبُّ غمامة بيضاء علقت بالسقف حتى أخذتني سورة النوم.rnrn
الحـــــبُّ فـــي البصـــرة والخمـــرُ مــن أربيل
نشر في: 29 سبتمبر, 2012: 07:19 م