TOP

جريدة المدى > مقالات واعمدة ارشيف > عالم آخر: كلنا بحاجة إلى "جنونكم" يا شباب

عالم آخر: كلنا بحاجة إلى "جنونكم" يا شباب

نشر في: 29 سبتمبر, 2012: 09:32 م

 سرمد الطائي بعد ان انتهي من كتابة هذه السطور سألتحق بالمئات من اهالي بغداد المشاركين في مهرجان "انا اقرأ". ومنذ ليل الجمعة وأنا مأسور بذكريات القراءة داخل العائلة وفي عهد الطفولة، قبل زمان الفضائيات الذي حولنا الى مجرد "قراء سبتايتلات".
طلبت من الأصدقاء على فيسبوك ان يتذكروا الاشياء التي كانوا يقرؤونها زمن الطفولة. واقترحت على شباب المهرجان ان يفكروا كيف يمكن تصميم برنامج خاص لكتب الاطفال. ذلك ان العادات القرائية تتشكل في زمن مبكر، وتؤثث عوالمنا الداخلية الاولى، وتصوغ احلامنا البكر عن الكون.ولا زلت أحن كما غيري، الى مطبوعات دار ثقافة الاطفال يوم كنا نتلقفها من المكتبات والاكشاك بأسعار رمزية. مغامرات احمد وطلال. موسوعة الفسيسفاء المصورة. مجلتي والمزمار. اصدارات دار العلم للملايين التي تتيح للاطفال ان يتعرفوا على الجاحظ وابن خلدون بلغة مشوقة ومبسطة. مجلات العائلة التي يقرؤها الجميع مثل "ألف باء".ولا زلت أحن كما غيري الى مبادرات معلمي ذلك الزمن وحرصهم على المعرفة. المعلمة التي ترتدي العباءة وترتدي الحجاب في الكوفة، وهي تأخذ بأيدينا في حصة "الانشاء" الى المكتبة العامة القريبة، لنطالع هناك نحن الهاربون من دمار هجوم الفاو عام 86، روايات "الزنبقة السوداء" و"قصة مدينتين".ولا زلت أحن كما يحن غيري الى ذكريات القراءة حتى أثناء القصف في جميع حروبنا. وقراءة "تاريخ الطبري" في المكتبة المتواضعة داخل مخيم اللاجئين. وقراءة مخطوطة "شرح المطالع" المطبوعة على الحجر في اسطنبول او اصفهان، والتي اهملها الناشرون في القرن العشرين، لكنهم بذلك أتاحوا لنا استنشاق رائحة الورق القديم الذي لم نعد نراه الا حين زيارة متحف. اتذكر "أمهات الكتب" التي قرأتها في مركز ثقافي يديره حزب الدعوة في مدينة قم. تعرفت هناك على نيتشة وهيغل وويل ديورانت وعلي الوردي ومحمد اركون. وهنا تخطر على البال ذكرى ساخرة لرواية "يوم ابن آوى" التي تتحدث عن محاولة لاغتيال شارل ديغول، اذ تضمنت مشاهد جنسية "على الخفيف" قام احد المؤمنين في تلك المكتبة بمحوها بالقلم الجاف، بينما كنا "نتسابق" خلسة لفك رموزها المستورة!وجزء من هذه الذكرى مؤلم، فقد تغيرت طرائق حياتنا كثيرا، وسهل الوصول الى الكتاب بما لا يقارن خلال آخر 5 أعوام. وفي معظم الاحيان أنهي يومي بتصفح بضعة كتب على موقع "فورشيرد" العظيم الذي صار بمثابة ذاكرة البشرية. لكن ساعات قراءتي تتراجع، وحين أشكو ذلك للاصدقاء اجدهم جميعا يواجهون محنة مشابهة.اننا اليوم ننفق معظم وقتنا على قراءة "سبتايتلات" التلفزيون، وما قاله عباس البياتي، وما كشفه اسامة النجيفي. الاحداث المريرة التي تحيط بنا تجعلنا ننسى مقامات الحريري وأغاني ابي الفرج ومشاهدات شتراوس في سان باولو، وما كتبه الغرب عن الشرق، وما حكاه الرحالة البغدادي ابن فضلان عن اسكندنافيا قبل ألف عام...الخ، بينما ننهمك من الصباح حتى المساء بمتابعة مهازل بلادنا عبر قراءة من نوع آخر، لتايتلات الاخبار المكررة. لقد قرأنا ألف خبر عن ضرورة الاسراع بتعيين وزير للداخلية. وألف خبر عن هرب السجناء الخطرين من بغداد والحلة وتكريت والبصرة. وألف خبر عن الاموال المهدورة. بينما لم يسعفني الحظ لقراءة مجموعة قصصية لبورخيس اشتريتها من المتنبي قبل اسبوعين.لقد اصيب الفرنسيون بالفزع نهاية القرن العشرين حين كشف الناشرون عن ان مبيعات الكتب تراجعت، فاجتمع الناس في باريس داخل خيمة كبيرة ونظموا مهرجانا تحت عنوان يليق بالتفنن الافرنجي حين اطلقوا عليه اسم "جنون المطالعة" لحث الشباب والشابات على العودة الى الكتاب.ومجتمعنا الذي انشغل بالبحث عن لقمة الخبز في اعوام التجويع الدولي، ثم انشغل بقراءة سبتايتلات العنف والصراع الطائفي وأنفق الكثير من وقته في قراءة لافتات النعي والموت، بحاجة اليوم الى ان يستعيد طقوس الحياة المستقرة، وعلى رأسها الكتاب. كي يحاول ان يفهم كيف صاغت الأمم اسئلتها، وكيف كانت تحلم وتحب وتتعايش. شباب مهرجان "انا اقرأ" يستعيدون ذلك في هذه اللحظة، في قلب بغداد، ولي أن أحلم برؤيتهم يتجولون في كل المدن المنهكة ليشيعوا "جنون المطالعة". وهل شيد الحضارات سوى المجانين؟

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

حياتي وموت علي طالب

حياتي وموت علي طالب

غادة العاملي في لحظة تزامنت فيها الحياة مع الموت استعدت ذكريات عشر سنوات ،أو أكثر .. أختصرها الآن في ذاكرتي بالأشهر الثلاثة الأخيرة. حينما اتفقنا أناقرر هو أن يسافر ملبيا الدعوة التي انتظرها لأكثر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram