هاشم العقابيليس اليوم، بل منذ أيام طفولتي الأولى، كنت حائرا في تفسير ظاهرة تآلف الضحية مع الجلاد. كانت جارتنا خياطة متزوجة وهي ما زالت دون العشرين. جميلة ورقيقة. نحبها نحن الأطفال ونشاركها البكاء المر. نبكي لأن زوجها "الأجرب"، هكذا كنا نسميه، يذيقها العذاب رغم أنها تعيله وهو عاطل عن العمل. يضربها كل يوم تقريبا وبطريقة سادية محترفة. كان يجرها من شعرها لمسافة طويلة على الأرض
rn وهو يركل وجهها بقدمه حتى ينزف فمها دما. وبعد أن يشبع غريزته العدوانية ويتدخل أهالي المنطقة تكون قد أشرفت على الهلاك. الغريب أننا نراها في اليوم التالي تعد له الطعام وكأن شيئا لم يكن. مشاهد التعذيب تتكرر والخياطة تنجب أطفالا. أسأل أمي فتقول شتسوي مجبورة. وجارة لها تشمت وتردد بتهكم "الجلب ما يحب إلا خناكة". قررت ذات يوم أن أشكو هذا "الأجرب" عند معلمي أستاذ نعيم. قال لي ببساطة: خلي تعوفه. أسرعت لبيتها لأبشرها بالحل. قلت لها إن المعلم يقول لك اتركيه وعودي لأهلك. لم تقل شيئا بل مسحت بيدها الحنونة على رأسي وبكت. rnومن يومها صرت لا أطيق رؤية كل من يسهل الهوان عليه. كبرت وأنا اسمع وارى حكايات من ذلك النوع. لا عن نساء، فقط، بل ورجال أيضا يستطيبون العيش مع جلادهم. كنت أراهم في أسئلة كاظم إسماعيل الكاطع:rnكلي بيا زمان تصير حتى الصيف مامش بيه مشراكه؟rnحرامي يحلف المبيوك والمبيوك يتعذر من الباكه؟rnكذلك تلوح لي في سؤال عريان السيد خلف:rnواكول اشوالف السرحان والشاةrnاعله سجه وكاوداه الإيد بالإيد؟rnكل تلك المشاعر حضرتني وأنا أشاهد على الشاشة جمعا من مثقفينا وأدبائنا وفنانينا تم حشرهم فيما سمي بـ "المؤتمر الثقافي الأول للجنة متابعة وتنفيذ المصالحة الوطنية" الذي خططت له الحكومة برعاية رئيسها.rnكان أملي أن يصرخ المثقفون بوجه السلطة احتجاجا على مداهمة أجهزتها القمعية للأندية والتجمعات الثقافية وضرب الناس العزل فيها كما كان يضرب ذلك الأجرب جارتنا الخياطة. وكنت أتوقع أن تنهض واحدة من فنانتنا، كما نهضت الشجاعة هناء أدور، وتهتف بأعلى صوتها، أمام السلطان، منددة بفرض الحجاب على المرأة التي تدخل الكاظمية المدينة وليس المزار. وان يقرأ شاعر قصيدة تقلب الدنيا على رأس حكومة تسعى لطمس ملامح شارع أبو نؤاس، شارع الحب والحرية. اقل ما كنت أتوقعه أن ينهض كاتب حاملا كتبه بين يديه ويضعها أمام راعي المهرجان هاتفا به: من منحك حق التجاوز على شارع المتنبي، الذي كان منارة للثقافة والعلم من قبل أن تلدك أمك؟rnاتصلت هنا وهناك وتابعت الأخبار قدر ما استطيع لعلي أقرأ عن مثقف هزته الغيرة على استهانة السلطة بالثقافة والمثقفين فلم أجد حسا ولا خبرا. قرأت مقتطفات من خطاب المالكي بهم فاستوقفني قوله إن: "جذور المصالحة الوطنية هي جذور إنسانية سماوية معروفة عبر محطات التأريخ، ولا يمكن أن ننظر إليها بكونها نتاجا إنسانيا". حقيقة لم افهم ما معنى أن يقول عن جذور المصالحة أنها إنسانية ثم يأمر المثقفين بعدم النظر إليها كنتاج إنساني؟ أما كان فيهم "اخو اخيته" ليقول له: حجي والله ما افتهمنا شتريد تكول!rnإن صوت المثقف، كي يصبح مؤثرا، يجب أن يكون مثل صوت الإسعاف. إذا "عاطت" فالكل يطبك على صحفة. العجيب أن الحكومة كان صوتها يلعلع ومثقفونا هم "الطابكين" على اليمنى. فوا حسرتي!rn
سلاما ياعراق :يا أهل الثقافة لا مقام لكم بها
نشر في: 30 سبتمبر, 2012: 10:02 م