احمد المهنافي كثير من الفضائيات العراقية يغيب المثقفون المستقلون، والتكنوقراط، عن تغطيات او مناقشات الأحداث والقضايا الهامة، ويكتفى باستضافة الساسة من الكتل المتنفذة. وهؤلاء في العادة لا ينطقون عن الهوى، وانما هم بيانات حزبية، وقد اصبحت معروفة ومدروخة، فأصحاب "دولة القانون" مدافعون، والآخرون مهاجمون.
أولى ضحايا مثل هذه المناقشات والتغطيات هي الحقيقة. فهل سيقول لك رجل من "العراقية" ان الحكومة على حق؟ أو يخبرك عضو دولة القانون ان الحكومة أخطأت؟ والأمر نفسه ينطبق على المتكلم عن "التحالف الكردستاني". هؤلاء جميعا ناطقون باسم كتلهم، وهذا واجبهم وشغلهم الذي لا نستطيع أن نلومهم عليه من حيث المبدأ، وإنْ كان جميع ساسة العراق يستحقون من حيث الواقع ما هو أكثر من اللوم، وهذا موضوع آخر.في التعامل مع "الحقيقة" هناك فارق جذري بين السياسي من جهة وبين المثقف المستقل من جهة اخرى. الأول يتعامل مع الحقيقة بمفهوم نفعي. الحقيقة عند السياسي هي ما ينفع حزبه أو ما فيه كسب للأنصار وهزيمة للخصوم. ان موضوع العمل السياسي هو السلطة. والحقيقة هي كل ما يفيد تثبيت وتقوية السلطة عند الحاكمين، أو ما يؤدي الى حيازة السلطة بالنسبة الى من هم خارجها.هذا ينطبق على السياسة في ديمقراطية عتيدة أو فتية. ولكن الفارق ان الكذب لدى رجال الأولى أقل لأن الإعلام الحر والشعب الحر لهم بالمرصاد. كما انهم لا يستطيعون الافلات من واجبات الخدمة المفروضة عليهم لأنهم يعملون في دولة القانون، وهي غير "دولة القانون" العراقية وأشباهها التي ينقلب فيها الخادم الى مخدوم، والمتحدث باسم القانون الى سلطة فوق القانون. كما أن حبل الكذب يطول ويمرد خلق الله مردا في الديمقراطيات الفتية. وما احلاها في الإسم واقبحها في الفعل هذه "الفتية".أما الحقيقة عند المتخصص والمثقف المستقل فهي نافعة فقط لأنها حقيقة، تزيد المعرفة وتنمي الحرية، وليس لفوائد شخصية أو حزبية تجنى من ورائها. ان شغلة المثقف المستقل والعالم او المتخصص تلزمه بأن يكون عميلا لجهة واحدة فقط هي الحقيقة. والحقيقة أيضا هي الخدمة التي يتولى الاعلام الحر تقديمها الى الجمهور، مثلما يقوم البرلمان بخدمة التشريع، والحكومة بخدمة الأمن، والقضاء بخدمة العدالة. وعندما يغيب الاختصاصيون والمثقفون عن الاعلام فليست الحقيقة وحدها ما يضيع وانما الاعلام نفسه يضيع لأنه يتحول الى اعلانات للسياسة.ان صحة كل أعمال البشر رهن بالحقيقة. والحقيقة متعة أيضا لأن فيها اختلافا وجرأة وتنويرا وادهاشا وبالتالي اثارة وتسلية. والتسلية هي واجب الإعلام تجاه الجمهور بعد الحقيقة. فاذا افتقد الاعلام الحقيقة والتسلية فلن يكون عمله شيئا آخر غير اضافة تعذيب المشاهدين من الفضاء الى تعذيب الساسة لهم في الأرض. وهذه السياسة هي استمرار للحصار بوسائل أخرى!ليست الكفاءة والثقافة امورا كمالية وانما هي أسلحة الشعوب في النضال من أجل حقوقها وحياتها. انها مرايا المجتمعات، ومعامل انتاج وعيها. والوعي جمالي وفكري وديني. والسياسي ليس بين شغيلة هذه الأنواع. المشتغلون بها هم الأدباء والفنانون، المثقفون والمفكرون والتكنوقراط، ورجال الدين. فاذا فرغت البلدان من منتجي الوعي صارت صحارى وضحايا. فهل هذه هي صورة العراق الحقيقية أم صورته الفضائية الكاذبة؟انه سؤال مفزع. ومعرفتي ببلدي تمنعني وتحميني من طرحه. ولكنه يهاجمني كلما شاهدت فضائية عراقية.
أحاديث شفوية: الفضائيات والمثقفون
نشر في: 1 أكتوبر, 2012: 09:43 م