لندن / عدنان حسين أحمدلا بد من الإقرار أولاً بأن فيلم "عصابات بغداد" للمخرجة السويسرية عايدة شليفر، من أصول عراقية لبنانية، هو فيلم مُشتغَل بحِرَفية عالية وعناية فائقة تدلِّلان على وضوح الرؤية الإخراجية لمخرجة الفيلم، وتمّكُنها من البناء بطريقة فنية لا تخفى على متلقي هذا النمط من الخطابات البصرية المتفردة.
rn أنجزت عايدة هذا الفيلم عام 2007، أي بعد اشتداد الأزمة الطائفية التي بلغت ذروتها في العراق عامي 2005 و 2006 بفعل الأحزاب العراقية التي وفدت إلى العراق من خارج الحدود، هذا إضافة إلى المعطيات الداخلية التي أججت هذا الاحتكاك الطائفي الذي لا دخل لمكونات الشعب العراقي الرئيسية فيه. وعلى الرغم من أنَ المخرجة شليفر لا تريد الخوض في التفاصيل الطائفية، لأنها محايدة أولاً، ولأن عصابات بغداد آنذاك كان هدفها الابتزاز المادي، وليس الانتقام الطائفي، حتى لو لجأت لاحقاً إلى التعذيب والقتل والتشويه، ويبدو أنّ الوحوش الكامنة في داخلهم تستفيق في المراحل التي تضعف فيها الدولة أو يغيب فيها القانون، أو أن يتحول بعض مفاصلها في الشرطة والجيش والأجهزة الأمنية إلى أجزاء فاعلة من هذه العصابات التي تبتز الناس وتقتلهم بهدف الإثراء السريع من جهة، وبغية إسكات الصوت الوحشي المزمجر في أعماقهم من جهة أخرى.rnلقد انتقت شليفر عدداً غير قليل من هذه الشخصيات المأزومة نفسياً التي لم تستطع الثبات ومواجهة الأزمة العصيبة التي يمرّون بها، فقرروا الانسحاب من ساحة المواجهة القاسية، و"الهروب" بشكل أو بآخر إلى مصر أو بقية الدول العربية المجاورة للعراق.rnإن منْ يلقي نظرة سريعة على شخصيات هذا الفيلم الوثائقي المُتقَن والمؤثر في آنٍ معاً سيجد أن المخرجة قد نجحت في التنويع أولاً، كما أنها ركزت على غالبية طبقات المجتمع العراقي فهناك المحامي، والتاجر علي عريبي عودة، والمرأة البسيطة حليمة الساعدي، وولدها وسام الذي بلغ المرحلة النهائية من "عراق ستار"، وشقيقه وسام الساعدي الذي عُذّب قبل أن يلقى حتفه على أيدي هذه العصابات الوحشية، والشاعرة الجميلة رنا جعفر ياسين التي تركها والدها تواجه مصيرها المحتوم أمام القتلة، هؤلاء جميعاً وغيرهم من الشخصيات التي أثثت متن الفيلم قالوا أشياء مهمة تتجاوز التوصيفات العادية للكلام العابر، ويبدو أن كاتب السيناريو أو واضع الأسئلة قد نجح هو الآخر في استخراج هذا الكلام النفيس الذي قالته معظم شخصيات الفيلم من دون استثناء.rnبطبيعة الحال، لا يمكنني أن ألقي اللوم كلياً على هذه الشخصيات التي "هربت" من ساحة المواجهة، فلو كنت مكانهم لهربت أيضاً طالما أن الدولة متوارية، والقانون غائب تماماً، لكن دعونا نبحث في الأسباب التي دفعت هذه الشخصيات برمتها للهروب إلى القاهرة. فالمحامي ورجل علي عريبي عودة قرر الهروب من بغداد بعد أن تعرض لأكثر من عملية خطف وبعضها بسيارات الشرطة، كما تعرّض ولداه سيف عريبي وغيث عريبي للخطف أيضاً بحيث حسم الأخير أمره بالاتجاه إلى أي بلد، وعدم العودة نهائياً إلى العراق.rnالشاعرة والفنانة التشكيلية رنا جعفر ياسين تم خطفها بطريقة غريبة من قبل الجيران الذين انتبهوا إلى أنها بدأت تبيع أغراضها المنزلية لكي تغادر العراق نهائياً بعد أن وصلتها رسالة بداخلها رصاصة من (شورى المجاهدين)، وحينما استنجدت بوالدها تركها تواجه مصيرها المحتوم لوحدها من دون أن يحرك ساكناً. عائلة حليمة الساعدي التي فقدت ولدين في عمر الورود، الأول كان مشروعاً لمطرب ناجح لأنه وصل إلى المرحلة النهائية في مسابقة "عراق ستار" وكان من المؤمل أن يصبح نجماً فنياً، والثاني وسام الذي أُختطف ثم قُتل تاركاً أفراد أسرته يستذكرون حجم العذاب الذي تعرّض له على أيدي المجرمين القتلة. ربما كان وجود المعالج النفسي الدكتور علاء مرسي مهماً في خلق الموازنة بين هذا الكم الكبير من عذابات الضحايا، وبينه هو كطبيب مختص يحلل الأذى النفسي والجسماني الذي يتعرض له الضحية إثر وقوعه في خطر شديد يهدد هويته وحياته، وقد شخّص هذه الحالة المرضية بـ "اضطراب ما بعد الأزمة"، الذي يمكن أن يفضي إلى التوتر، والاكتئاب، وحتى البلل إذا كان عنصر الخوف مستمراً، ولكنه نصح المرضى بعدم اعتزال الحياة، والانقطاع عن ممارسة الأنشطة اليومية التي يمكن أن تخفف من وطأة الأزمة التي يمر بها الضحية.rnثمة أسئلة كثيرة أثارتها شليفر في هذا الفيلم لعل أبرزها غضب الضحايا من البرلمانيين والمسؤولين الكبار في الدولة الذين جيء بهم بعد الاحتلال، ففي الوقت الذي يناقشون فيه امتيازاتهم ومستحقاتهم المالية كان هناك مئات، وربما آلاف العراقيين الذين خُطفوا، أو غُيِّبوا، أو قُتلوا من دون أن يهتز للسياسيين جفن، هذا ما يؤكد المحامي علي عريبي، أما الشاعرة رنا جعفر فهي تعتبر الوطن ضحية هو الآخر، ولكنها تصب جام غضبها على السياسيين العراقيين الجُدد المنقطعين إلى مصالحهم الشخصية وشؤونهم اليومية الخاصة. وهذا الأمر ينسحب إلى بقية شخصيات الفيلم التي لم تجد بُداً من الهرب إلى مصر أو أية دولة عربية مجاورة. وعلى الرغم من مسألة اتفاقهم على الهرب أو مغادرة العراق، إلاّ أنهم يختلفون في مسألة العود
محاولة لإسكات الأصــوات الوحشية المزمجرة في نفوس القتلة
نشر في: 3 أكتوبر, 2012: 06:55 م