شاكر لعيبيالعمارة فن من الفنون الجميلة دون شك، وهي لا تتطابق تماماً مع "الهندسة المعمارية" أو "الهندسة المدنية" الأكثر تخصّصاً. لذا فهي تشكِّل بعضاً من عُدَّة وأدوات المعنيّ بالجَّمال والجماليات. العمارة معنية بالبصريّ قدر عنايتها بالوظيفيّ، بينما ليس من الضروري أن يكون كل مهندس معماريّ فناناً مهتماً بالمرئيّ بالمعنى الخلاق للكلمة،
أي يمنح لمعايير الجماليّ المرهفة الوزن ذاته الذي يقيمه للوظيفيّ. من هنا يمكن أن تهمّ العمارة المختص وغير المختص، مؤرخ الفن والشاعر وطالب الفنون الجميلة، وهي تهمّ خاصة المعنيين وطلبة الاختصاصات الفرعية الواقفة على أطراف الهندسة المعمارية مثل الديكور الداخليّ الذي يسمّى أيضا بالعمارة الداخلية architecture intérieure. ولقد اهتمتْ اتجاهاتٌ فنية أساسية منذ نهاية القرن التاسع عشر بالعمارة مثل "الفن الجديد" (نفضِّل أن نكتبه حرفياً كما يُلفظ: آر نوفو art nouveau) ومدرستي البوهاوس والدو ستايل. إن روح "لار نوفو" امتدت على يد الأوربيين، الفرنسيين والإيطاليين بشكل خاص، إلى العاصمة تونس التي تقدّم العديد من بناياتها أمثلة عن تطبيقات اتجاه "لار نوفو" المعمارية. كنا نتمنى أن نقوم بدراسة هذا الاتجاه في عمارة العاصمة لكن عدم وجود الوقت الكافي ولأهمية الموضوع القصوى قمنا باقتراحه منذ سنوات على باحث دكتوراه تونسي مختص بالعمارة الداخلية، ولا نعرف أين وصل ببحثه اليوم. في جميع الأحوال ليس من الضرورة أن تكون متخصّصاً بالهندسة المعمارية لكي تستمتع وتهتم بجماليات عمارات تونس العاصمة المبنية وفق طراز تلك المدرسة في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. لعلّ الشعراء أقرب مما نتصور لطموح العمارة، فكلاهما يبحثان في تنظيم داخلي للشكل. وإن العلاقة بين الشعر والعمارة أعمق بكثير مما قد يتوقع المرء، رغم اختلاف "مواد البناء" هنا وهناك. كما أن علاقة الشعر والعمارة كليهما مع الواقع الموضوعيّ والاجتماعي هي عينها لو دققنا النظر، وهو ما حاول عملنا "العمارة الذكورية" التماس معه عن كثب. فلا تظهر الذكورية في الخطاب والممارسة السوسيولوجية، ولا في الخطاب اللفظيّ فحسب إنما في تجليات العمارة المادية نفسها. إن علاقة أخرى بين الشعر والعمارة تظهر في الأماكن غير المتوقعة، خاصة في ما أسميه "بالعمارة غير المثقفة" والشعبية التي تتمادى في مخيالها الخاص أثناء البناء، حتى أن "شعراً سوريالياً" من نمطٍ ما قد يظهر في العمارة، كما هو الحال في عمارة الجنوب التونسي (قصور تطاوين)، عمارةٌ تناقِضُ بشكل جذريّ بعض طروحات غوستاف باشلار التي طرحها في كتابه (جماليات الفضاء)، وتتفارَق مع خاصية العمودية والمواجهة، اللصيقة حسب رأيه بالعمارة، التي نجد، حسب رأينا، نقيضها في بيوت مطماطة التونسية تحت - الأرضية.في عمارة القصب العراقية والبناء بالطين، بل حتى بالطابوق، ثمة مفاهيم محددة تتعلق بميتافيزيقيا "الزائل" المؤقت و"الآخرويّ" التي تشكل الوعي الرافدينيّ للعالم، كما نلتقي به مثلاً في ملحمة جلجامش الذي راح يبحث عن الخلود ليتوصل إلى عبثية مثل هذا البحث وليكتفي بالمتعة المؤقتة، وليقتنع أن الأرباب قاضية عليه وعلى عماراته لا محالة. وهي فكرة وصلت وحلتْ في روح الشعر العربيّ إلى يومنا هذا:أموالنا لذوي الميراث نتركها وبيوتنا لخراب الدهر نبنيهاإن غير المُقال، بل نكاد نقول غير المرئيّ في العمارة أكثر أهمية أحياناً كثيرة من المرئيّ، وإن المخفيّ فيها، حتى لو كان موضوعها وظيفياً، يوازي بل يناهز المُعْلن الظاهر فيها. إنها خطاب بكل بساطة.
تلويحة المدى: المَخفيّ والمُعلَن في فن العمارة
نشر في: 5 أكتوبر, 2012: 07:15 م