يعاقب قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 المعدل في المادة ( 333 ) منه بالسجن (أكثر من خمس سنوات - 15 سنة ) أو بالحبس ( من يوم واحد - 5 سنوات ) كل موظف أو مكلف بخدمة عامة عذب أو أمر بتعذيب متهم أو شاهد أو خبير لحمله على الاعتراف بجري
يعاقب قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 المعدل في المادة ( 333 ) منه بالسجن (أكثر من خمس سنوات - 15 سنة ) أو بالحبس ( من يوم واحد - 5 سنوات ) كل موظف أو مكلف بخدمة عامة عذب أو أمر بتعذيب متهم أو شاهد أو خبير لحمله على الاعتراف بجريمة أو للإدلاء بأقوال أو معلومات بشأنها ، أو لكتمان أمر من الأمور ، أو لإعطاء رأي معين بشأنها ، ويكون بحكم التعذيب استخدام القوة أو التهديد .
لكن تجريم هذا الفعل لم يكن كافيا لإيقاف التعذيب الذي كان ممارسة منظمة عادية في المواقف والمعتقلات العراقية قبل عام 2003 ، وعاد بطريقة حادة ووحشية إبان الحرب الطائفية عامي 2006 و2007 واستمر كممارسة روتينية منتظمة لانتزاع الاعترافات من المتهمين خصوصا في قضايا الإرهاب ، فالجهات التحقيقية عاجزة عن إثبات أية جريمة - مهما كانت بسيطة - على مرتكبيها إلا بانتزع الاعترافات منهم . وأيسر الطرق للوصول إلى ذلك هو التعذيب بأنواعه المختلفة ، بضمنه اغتصاب المتهمين ذكوراً أو إناثاً أو اغتصاب ذويهم أو تعريتهم أمامهم .
فالدافع الرئيسي وراء ممارسات التعذيب في المواقف والسجون العراقية هو انتزاع الاعترافات لإثبات الجرائم ضد المتهمين بها ، ورغم أن قسماً لا يستهان به من تلك الاعترافات تصدر من المجرمين الحقيقيين ، ولكن قد يذهب ضحيتها الكثير من الأبرياء الذين يضطرون إلى الاعتراف تخلصا من عذابات وآلام التعذيب والضغط الذي يمارس ضدهم .
والتعذيب - مهما كان مقداره يسيرا أو كبيرا - ممارسة مرفوضة سماويا واجتماعيا وإنسانيا ودوليا مهما كانت المبررات والأسباب التي تقف خلفها ، لأنها تتعارض مع أبسط مبادئ حقوق الإنسان . فما هي عوامل انتشارها في العراق بعد عام 2003 على الرغم من تبنيه - كدولة ديمقراطية - مبادئ حقوق الإنسان ومنع التعذيب رسميا وعلى الرغم من تجريم هذا الفعل والمعاقبة عليه بالسجن لمدة قد تصل لـ ( 15 ) سنة ؟
هناك عوامل كثيرة ساعدت على انتشار التعذيب ، إلا أن أهمها هي :-
1- عدم احترام قاعدة الفصل بين جهات التحقيق وجهات وضع اليد على المتهمين :- التي وضعتها سلطة الائتلاف الموقتة المنحلة في القوانين العراقية منذ عام 2003 ولكنها خرقت بإنشاء سجون ومواقف تابعة للجهات التحقيقية مما أدى إلى ممارسة أنواع التعذيب والانتهاكات ضدهم فيها .
فالقصد من هذه القاعدة هو منع وضع المتهم تحت يد المحقق أو ضابط التحقيق ، لمنعه من تعذيبه لانتزاع اعتراف منه . وإنما يوضع تحت يد جهة لا علاقة لها بالتحقيق ( وزارة العدل ) ولا تعرف أي شيء عن نوع التهمة الموجهة للمتهم الموقوف ، وليس من واجبها سوى الحفاظ عليه ، وتأمين إحضاره ، وقت طلب الجهة التحقيقية ، لإنجاز إجراء معين ، دون أن يخرج من يدها نهائيا ثم إعادته إلى محل الاحتفاظ به .
ونلك هو العامل الحاسم في انتشار ممارسات التعذيب المقيتة ، ولو ضمن احترام قاعدة الفصل بين جهات التحقيق وجهات وضع اليد على المتهم لضمنا القضاء على ثلاثة أرباع ممارسات التعذيب ، شريطة أن تطبق تلك القاعدة تطبيقا صارما بأن ينص على تجريم احتفاظ الجهة التخقيقية بالمتهم ولو لدقيقة واحدة .
2- إفلات الجلادين من العقاب :- فيندر جدا أن يلاحق محقق أو ضابط عن قيامه بانتزاع اعتراف من متهم بالتعذيب ، بل غالبا ما يكافأون لأنهم كشفوا مرتكبي الجريمة ،خصوصا إذا كانت الجريمة محل اهتمام الرأي العام أو محل اهتمام قياداتهم . ويساعد على الإفلات من العقاب في جرائم التعذيب عوامل كثيرة منها :-
أ- الصعوبة البالغة في الحصول على الأدلة ضد الجلادين لان التعذيب يتم عادة والضحايا معصوبو الأعين لمنعهم من التعرف على الجلادين أو يقوم الجلادون بارتداء قناع يمنع من التعرف عليهم ، ويجري التعذيب في غرف مغلقة غير خاضعة لأي رقابة ، بمعزل عن العالم الخارجي ، وقد يجري التعذيب بطرق وحشية وخسيسة لا تترك أثرا على جسم الضحية ، أو أن يجري بطرق تترك أثرا على جسده إلا أن الآثار تختفي بعد فترة حينما لا يعرض الضحية سريعا على الأطباء لثبيت آثار التعذيب ، وقد يختلط الأمر حينما تدعي الجهات التحقيقية بأن المتهم هو من احدث آثار التعذيب بنفسه تهربا من اعترافه بالجريمة . وقد تمارس ضغوط وتهديدات أو تأثيرات معينة ضد الجهات الطبية لاستصدار تقارير لا تراعي الحقيقة وتميل باتجاه إنقاذ الجلادين على حساب الحقيقة .
ب- تكاسل أوعدم فعالية أوعدم جدية الجهات المعنية بملاحقة جرائم التعذيب كهيئة النزاهة وجهاز الادعاء العام ، بل تواطئها معها أحيانا ، أو تغاضيها عن تلك الجرائم تجنبا للاصطدام بالجهات التي ارتكبت تلك الممارسات ، خصوصا إذا كانت مدعومة من أعلى السلطة التنفيذية أو مرتبطة بها .
ج- منع محامي المتهمين أو ذويهم من الاتصال والتواصل معهم لفترات طويلة ، بل أحيانا منعهم من معرفة أماكن احتجازهم ، مما يسهل ممارسة كل أنواع الضغط والتعذيب ضدهم ثم إخفاء آثار التعذيب باندمال جروحهم ، لعدم وجود من ينجدهم أو يطالب بإجراء الفصحوصات الطبية على أجسادهم .
د- فساد القوانين :- مثل نص المادة ( 111 ) من قانون أصول محاكمات قوى الأمن الداخلي التي منعت اتخاذ أية إجراءات قانونية ضد ( رجل الشرطة) مراتب وضباطاً ، إلا بأذن من وزير الداخلية ، وقد يمتنع الوزير عن إعطاء الإذن باتخاذ الإجراءات القانونية ضد مرتكبي ممارسات التعذيب ، مما يساعد على إفلاتهم من العقاب وانتشار ممارسات التعذيب بل تفاقم ممارستها.
د- تورط الجهات التي تحقق في ( تهم تعذيب المتهمين) ذاتها في التعذيب أو إيمانها بضرورته :- فكيف يتصور أن نخرج من تحقيق في ( تهمة تعذيب متهم) بنتيجة إيجابية إذا أودع التحقيق إلى ضابط هو زميل الضابط المتهم كما انه هو نفسه يمارس التعذيب لانتزاع اعترافات المتهمين ، أو إذا كان المحقق المعني أو قاضي التحقيق المعني يعتقد بضرورة التعذيب لانتزاع الاعترافات ، وإلا فلن تثبت لدينا جريمة واحدة ضد مرتكبيها لعجز الجهات التحقيقية عن جمع أدلة معتبرة ضد الجناة . لذلك تجد أن قضايا التعذيب التي تفتح ضد الضباط ( المحققين ) - رغم قلتها قياسا إلى ممارسات التعذيب المنتشرة - فإنها لا تتابع بجدية كافية ، أو يجري التحقيق فيها بطريقة منحرفة باتجاه إنقاذ الضابط المتورط بالتعذيب .
3- تبني القضاء الأخذ بالاعترافات المنتزعة بالإكراه والتعذيب :- فأخذ المحاكم العراقية بالاعترافات على علاتها وإستنادها إليها في إصدار الأحكام بإدانة المتهمين بالجرائم ، بلا بحث دقيق في كونها منتزعة بالإكراه من عدمه ، شجع على تفاقم ظاهرة التعذيب لانتزاع الاعترافات ، مادام الجلاد آمناً من ملاحقته عن جريمة التعذيب بل انه سيكافأ عن اكتشافه فاعلي الجريمة ، وما دام مطمئنا بأن القضاء سيأخذ بالأدلة التي رتبها له من خلال تعذيب المتهم وإكراهه على الاعتراف . وهذه هو عين ما شخصه نائب الممثل الخاص للأمم المتحدة في العراق جورج بوستن في كلمته الرائعة نهاية عام 2011 ،إذ يقول :- ( ... وفي حين ينص القانون العراقي على عدم قبول القضاة للاعترافات التي يزعم أنها انتزعت تحت الإكراه أو نتيجة سوء المعاملة أو التعذيب ، فإن رصد إجراءات المحكمة من الأمم المتحدة ، يشير إلى أن القضاة يقبلون مثل تلك الاعترافات ، بشكل روتيني دون دراسة ، وللأسف تسهم هذه العوامل في إيجاد بيئة تسمح بإساءة معاملة المحتجزين وتعذيبهم ... ) ( ).
4- تشجيع وتبني وحماية السلطة التنفيذية للجلادين :- لاعتقادها بأنهم أداة حمايتها ، والجهاز القادر على كشف المتورطين بالجرائم خصوصا الجرائم السياسية التي تمس أمن النظام السياسي وتشكل خطرا عليه ، ولأنها ( أي السلطة التنفيذية) عاجزة دونهم عن حماية نفسها أو تحقيق أي منجز في مجال الأمن ، ولإيمان معظم القيادات الأمنية بعدم إمكانية كشف الجرائم دون استعمال الضغط والتعذيب لانتزاع الاعترافات ، لعجز الأجهزة التحقيقية عن كشف أية جريمة بلا اعترافات – إلا نادرا جدا - بلا ضغط وتعذيب .
إن إيقاف ممارسات التعذيب المنتشرة في العراق أمر يسير فعلياً لو توفرت الإرادة السياسية الحقيقية لإيقافه ، لكن ليس الحل بتشكيل لجنة حكماء لتحري حقيقة وجود اعتداءات أو تعذيب ، فذلك أمر يعرفه الكل ، ولا يحتاج إلى حكماء ولا إلى لجنة حكماء ، ومن ينكر وجود التعذيب فإنما يحاول تقليد النعامة حينما تدس رأسها في التراب ، إنما الحل في إيقاف عوامل انتشار التعذيب التي ذكرناها أعلاه ، وما أسهل ذلك .