TOP

جريدة المدى > المدى الثقافي > تلويحة المدى: لماذا التوجّس من مفردة (البلاغة)؟

تلويحة المدى: لماذا التوجّس من مفردة (البلاغة)؟

نشر في: 23 أكتوبر, 2009: 05:05 م

شاكر لعيبيلو استشهدنا بالكتابات النقدية وشبه النقدية والصحفية الوافرة التي يكتبها شعراء ونقاد جدد لتولَّد لدينا يقين بأن هناك "استهجاناً" واسع النطاق لمفردة (البلاغة) على الصعيد الشعري على الأقل. تُستخدم المفردة في هذه الكتابات رديفاً للأسلوب اللصيق بالماضي، أو صنواً للتقعُّر اللغوي، أو بديلاً للجمود الأسلوبيّ، أو تفضيلاً للأساليب السائدة، أو قناعاً لتبرير ضعف لغويّ وأسلوبيّ ما،
أو ترويجاً مُراوِغاً للغةٍ شعريةٍ راهنةٍ يُراد أن تكون هي عينها اللغة الوحيدة الجديرة بالشعر والشعرية والمعاصرة.تدل غالبية هذه الكتابات على أن هناك سوءَ فهمٍ لمعنى مفردة (البلاغة)، كأنها منحدرة من سأم المحاضرات المدرسية العربية، من ثقل المجلس الأكاديمي الجامعي الذي شحن المفردة بالاستطرادات اللغوية والاستشهادات المحفوظة عن ظهر قلب وبتفريعات علوم البديع المستحدثة الثقيلة، والذي جعلها بالتالي تبدو مقذوفة في الاختبار العقلاني الجامد أكثر مما في حقلها الأصلي: القول مُوارَبة الذي هو الشرط الأصلي للكتابة المُبدِعة، الشعرية وغير الشعرية.لا يقترح لنا أحد مصطلحا آخر لمفهوم الكلام المُوارِب بطرق شتى، بديلا للبلاغة، مما يزيد حيرتنا بل شكنا بمفهوم الكتابة الأدبية لدى الشريحة الشعرية المشكِّكة بمفردة البلاغة في المشهد الشعري الراهن. لو أن هذه الكتابات المحايثة لا تودّ الإيمان بالمقول العربيّ العميق للبلاغة بصفتها الجوهرية (كقول مُوارِب) لأي كتابة شعرية وأدبية، فعليها العودة، من باب المحاججة المستلهَمَة من مصادر حديثة، إلى ما يقوله على سبيل المثال رولان بارت عن (البلاغة Rhétorique). توصَّل بارت إلى النتيجة العامة التالية: "من المحتمل وجود شكل بلاغيّ واحد مشترك مثلاً بين الحلم والأدب والصورة" (تواصل، العدد 4) يقع في أشكال المجازات الأدبية عينها الموجودة في تصنيفات البلاغة التقليدية. سنعيد بطريقة أخرى في هذه المناسبة قول ما قد سبق وأن تناولناه بتوسّع في بحث آخر:القول المُوارِب الذي يتحدث عنه بارت هو ما أسماه العرب بالمجاز. إذ على المستوى اللغوي، يستخدم البشر، بشكل عام، المفردات المجموعة في قواميس محدّدة، لأغراض الاتصال والتواصل. وهذا هو مستوى أول من مستويات البداهة في استخدام اللغة. ونقع فيه على شيء مباشر ومنفعيّ في استخدام الألفاظ والأفعال والصيغ النحوية المتفق عليها بين جماعة لغوية محددة. غير أن هناك مستوى آخر من مستويات استخدام الكلام هو المستوى غير المباشر والجماليّ الذي يقول المعاني ذاتها بشكل غير مباشر: مُداوَرَةً. ويكون وقعه في أغلب الأحوال أعمق في الذات من وقع الخطاب المباشر. نحن هنا في نطاق الاستخدام الجمالي، أو المجازي للقاموس المشار إليه عينه: (فلان أسدٌ)، إشارة مجازية قد تؤشر لفكرة الشجاعة، وقد تكون أقوى وقعا عند حذف أداة التشبيه.في اللغة العربية ومنذ كتابيْ أبو عبيدة (ت 210 هـ) "مجاز القرآن" وابن قتيبة (ت 276هـ) "تأويل مشكل القرآن"، تنطوي تحت لواء (المجاز) الاستخدامات غير المباشرة للمفردات المشتركة بين المتفقين على شفرة معينة. بعض المتشددين فكراً والجامدين جمالياً مثل ابن تيمية أنكر وجود المجاز أصلاً في اللغة، في حين توصل ابن قتيبة إلى أن المجاز موجود في كل اللغات وليس العربية وحدها. المجاز هو الوجه الأول الأصلي لجميع أنواع البلاغة من تشبيه واستعارة وكناية وغير ذلك مما نستخدمه كل يوم في الشعر الحديث والقديم وقصائد النثر الراهنة، بل في الحديث اليومي.على أن المجازات ومن ثم الاستعارات المعقدة المشتقة منها يمكن أن تغني النص ويمكن أن تسيء إليه. عندما نعاود قول الاستعارة المعروفة المكرَّرة، فهي تغدو عبئاً على النص وتجعله ممجوجاً، وعندما يجري اختراع صيغ جديدة من الاستعارة فهي تصير إثراءً للنص إذا لم تكن مولـِّداً للدلالات الجديدة. لاحظ فولتير في قاموسه الفلسفي أن: "أوائل من اكتشف تلك الصيغ المجازية اعتبروا من المخترعين، أما اللاحقين فلم يكونوا سوى ببغاوات". ويطلق أحمد الهاشمي على الاستعارات التي "لاكتها الألسن، العامية".والمجاز في العربية هو "اللفظ المستعمل في غير ما وُضِعَ له في اصطلاح التخاطب" لعلاقةٍ مع قرينة، مانعةٍ من إرادة المعنى الوضعيّ. والعلاقة هي المناسبة بين المعنى الحقيقيّ والمعنى المجازيّ، وقد تكون علاقة المُشابَهَة (هاشمي 291).يشتغل المجاز بطريقة سليمة، عندما يكون المخاطـَب واعياً أن تأثيرات المعنى عليه تمرّ بطرق متعرِّجة، أي أن اللفظ يُستعمل في غير ما وُضع له أصلاً،  كما عندما  يقبل المتلقي النية الشعرية أو اللعبية في استخدام اللغة.اعتقد جلّ البلاغيين العرب أن فكرة المجازات، بما فيها الاستعارة، تقوم فحسب على فكرة (المُشابهَة) بين دالّين، وهو استسهال وتبسيط، لا تبرهن عليه مدلولات المجاز نفسها التي إذا كان صحيحاً أنها تقيم علاقة مشابَهَة ظاهريةً فهي تفعل لكي تقدم علاقات أخرى جديدة تماماً ومعقـَّدة: اختراع معان جديدة تقريباً، أو تقديم الجو الروحي المخصوص الذي تتناوله مجازاتها. فإن بيت أبي ذؤيب الهذلي: "وإذا المنية أنشبت أظفارها- الفيتَ كل تميمةٍ لا تنفعُ" ليست تشبيهاً بسيطاً للمنية بأظافر الحيوان الجارح، قدر ما هي

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

مطلع الشهر المقبل.. انطلاق معرض العراق الدولي للكتاب

مطلع الشهر المقبل.. انطلاق معرض العراق الدولي للكتاب

بغداد/ المدى تنطلق فعاليات الدورة الخامسة من معرض العراق الدولي للكتاب، في الفترة (4 – 14 كانون الأول 2024)، على أرض معرض بغداد الدولي.المعرض السنوي الذي تنظمه مؤسسة (المدى) للإعلام والثقافة والفنون، تشارك فيه...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram