عزيزي وطني:
أكتب لك هذه الرسالة متذرعاً بطاقة الأمل الإنساني على خلق مستقبل أفضل للأجيال المقبلة، أو اختلاق ما يمكن أن يدخل في باب ما تداولناه من مسؤولية المثقف إزاء أحداث زمنه انطلاقاً من محلية الألم، مكابدة شخصية وجمعية في آن، لكنه مقرون بأمل ما، لست متأكداً منه، وغير مدرك، تماماً، أن لهذا الألم صوتاً مسموعاً، رغم كل الهدير المنبعث من الجرح، والدم الذي لم يعد له لونه العادي لفرط ما اختلط بالتراب والحديد والمطر والأقدام والأيدي والغبار والأوراق والخبز والدولارات.
ثمة أمور كثيرة لست متأكداً منها ومن بينها التعريف المقنع للوطن، لوطن مثلك أنت بالذات، عصي على الفهم والتفاهم، قليل الخبرة في الإنصات وعالي النبرة في الحوار، يجعل الجانب العملي من حياته ممارسة لا تخلو من عنف، غير مبالٍ بالسلام العقلي للإنسان، مستوحش ومتوتر، يتعايش في أعماقه السادي والمازوخي، للأسف، أما سيرته الشخصية فيمكن تلخيصها بأنه في حالة ردّة متسارعة وانكفاء محموم لا خارج سياقات التطور البشري في أماكن عديدة من العالم، إنما خارج سياقاته هو، بعد تلك الوعود الكبرى التي ضربها أجداد وآباء بررة لم يحسن الأبناء حتى الإتيان بوعود تقاربها أو تدانيها أو تتناوشها لتنهض على وعود أخرى تتصل بها وتأخذ بأردانها، وفق الذي "وعدت" به فلسفة/ سردية كبرى أيضاً: التراكم الكمي يؤدي إلى تغير نوعي، فتوقف السارد وتشوه المسرود، في المركز والأطراف.
عزيزي وطني:
إن التناقض الكسول، لا التناقض المنتج، سمة من سمات شخصيتك الاجتماعية، متطرف في الحب والكراهية، ضعيف البنية لا تتردد عن خوض أعنف أشكال المصارعة مع خصمك، مما جعل البلاغة مجرد نبرة صوتية تعويضاً عن أي ظفر مستحيل وتعتيماً على أي خسارة ممكنة، وصارت اللغة الوطنية أكبر مصنع لانتاج الكذب كما يتجلى هذا ويتثبت في كلمات النشيد الوطني.
أراك (هل أراك؟) تبتكر الأكذوبة والأكذوبة المضادة، وتقف بينهما مزهواً بلاأبالية المزدهي، نافش الريش، مثل ديك فوق مزبلة، لا يكلف نفسه حتى النظر إلى طيور السماء غروراً وإلغاء وعجزاً.
أخي وطني:
ما أنت إلا نحن، طبعاً، فأنت صورتنا ونحن صورتك، ولا أحد بريئاً.. فالرسّام نتاج عقله ومخيلته والصورة نتاج ذلك العقل والمخيلة، وهكذا رسمتنا.. وهكذا رسمناك، نحملك وتحملنا، حملاً ثقيلاً من دون أن نحسن طريقة حمل بعضنا بعضاَ كي يخف الثقل:
"الحمل الذي تحمله بطريقة جيدة يصبح خفيفاً" – أوفيد.
هل نجعل حاضرنا خصماً عنيداً لماضينا كي نتحلل من أعباء تلك التركات التي قصمت ظهرك، يا وطني، وظهورنا، كنوع من الحل السهل: القطيعة مع الماضي، فتدوم الخصومة وتتوالد وتنتج خصومات جديدة بينما يقف المستقبل بعيداً جداً وهو يسخر منا؟
أم أن ثمة من يتجرأ على محاكمة الماضي وتفحصه وتبيّن مآثره وفضائحه لنمد حاضرنا بأمل ما حتى ولو كان بصيص نجمة سحيقة، ذابلة؟
حين استوفت صورتنا شكلها الأخير واستغلق الإطار ونمت للفكرة أجنحة، قوادم وخوافي، ركّبنا للطير الشكير أجنحة أخرى وأخرى وأخرى كي يحلق قبل موعده مع قدرته الذاتية على الطيران، والنتيجة أن سقط هذا الطير تحت وطأة أجنحته الثقيلة.
لم تكن المس بيل (جيرترود مارغريت لوثيان بيل ( (14 July 1868 – 12 July 1926 امرأة سائحة لتحط في بغداد إعجاباً بحضارتها المعجبة ثم قررت أن تؤلف دولة، في لحظة ضجر عاطفي، بل هي كاتبة وسياسية ومعمارية، تتقن أربع لغات، وجاسوسة، إضافة لوظائفها الأخرى، وجاء في سيرتها بالنص: (صانعة العراق) أي لم يصنعه عراقي من أبنائه، بل أنت من صنعنا، بعد أن صنعتك تلك السيدة متعددة المواهب، بما فيها الجاسوسية.. لكنك تبقى صورتنا ونحن صورتك.
التوقيع: مواطن بلا وطن
رسالة إلى وطني
[post-views]
نشر في: 7 يناير, 2013: 08:00 م